{ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} .
والحق هنا هو أمر القتال فقد فرت منهم العير التي خرجوا إليها ليأخذوها ، وبدا لهم النفير ، فبدل أن يلقوا عيرا ينقلوها ، لقوا جيشا يقاتلونه ، وذلك هو الحق الثابت الذي فيه الشوكة إن انتصروا ، والصبر عند الصدمة ، وقد جادلوا في هذا مع أنه صار أمرا لا مناص منه .
وفي الحق كانت قوة الكفر مسيطرة ، وما كان للمؤمنين قبل بها لولا تأييد الله تعالى ونصرته ، فالخوف كان لابد منه ، وليس الشجاع هو الذي لا يخاف ؛ إنما الشجاع هو الذي يقدر قوة عدوه ويخافها ، ولكن يدبر للقائها ، ويعمل على التغلب عليها ، ولقد كان جدلهم في هذا منشؤه المحافظة على النفس كجدلهم حول الغنائم فمنشؤه الرغبة في الموت .
وقد قال الله تعالى في تصوير خوفهم وتقديرهم للقاء:{ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} فقد شبه سبحانه وتعالى حالهم بحال من يساق إلى الموت ، وهو مشدوه ناظر إليه ، متوقع له كأنه يراه رأى العين ، وأنه نازل به لا محالة .
ولقد تجسم لديهم الخطر ، كأنه نازل بهم لا محالة ، ولا مناجاة منه ، وإن رضوا بالفداء فالله سبحانه وتعالى يبين لهم أن ثمة خطر ، ولكن ثمة أيضا وعد الله تعالى بالنصر والتأييد وثمة الإيمان الثابت الذي نزلت معه الجبال ولا يتزلزل .
وإن الله تعالى يدعوهم في هذا إلى الصبر والاطمئنان إلى وعد الله تعالى وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبث فيهم روح الاطمئنان والأمن ، ولكنه كان يريد أن يثبت من اعتزامهم اللقاء وطلبهم للنصر ، وطاعتهم له .
ويروي الحافظ ابن كثير وأصحاب السير الصحاح أنه لما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر فرار العير إلى سيف البحر ، ومجيء جيش المشركين وكان النزال لابد منه أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يتثبت من جيشه فاستشار من معه وأخبرهم عن قريش .
فقال أبو بكر ، فأحسن القول ، ثم قام عمر فقال فأحسن .
ثم قام المقداد بن عمرو ، فقال:امض يا رسول الله لما أمرك الله به فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا نحن هاهنا قاعدون ( 24 )} ( المائدة ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ( مدينة بالحبشة ) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا ، ودعا له بخير .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أشيروا علي أيها الناس ) ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم كانوا عدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا:يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف من ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوهم من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك . قال سعد بن معاذ:والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال:( أجل ) . قال:فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله كما أمرك الله ، فوالدي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر ، فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن نلقى بك عدوانا غدا ، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله تعالى ، فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشطه ، وقال:( سيروا على بركة الله ) ( 1 ){[1149]}
انظر إلى حكمة القائد المحنك لا سير إلا بعد أن يعرف أن إرادة جيشه قد اجتمعت على الحرب .