{يُجَادِلُونَكَ}: المجادلة: المنازعة التي يفتل بها عن مذهب إلى مذهب ،وأصل الجدل: شدّة الفتل .
{يُسَاقُونَ}: السَّوق: الحثّ على المسير .
{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} فقد كان الموقف محرجاً بالنسبة إليهم ،فها هو النبي يتأهّب للخروج عازماً على تنفيذ المهمة الموكولة إليه ،مهما كلّفه ذلك من تضحياتٍ ومصاعب ،لأن القضية واضحة لديه في ما يترتب عليها من نتائج إيجابية لمصلحة الإسلام والمسلمين ،الأمر الذي يحقق للساحة الثبات والصلابة والقوة ...فماذا يفعلون ؟هل يتمردون على أمره ؟وهذا غير ممكن ،لأنه يؤدي بهم إلى الابتعاد عن خط الطاعة والانقياد الذي التزموا بالسير عليه في إيمانهم بالإسلام ،وبيعتهم للرسول .إذاً لا بد من الدخول في جدالٍ طويل مرير مع الرسول ،ليثبتوا له خطأ التصور للنتائج الإيجابية ،ولينقلوا إليه مخاوفهم في ما ينتظرونه من نتائج سلبيةٍ .ودخلوا معه في جدال صعب ،وربما أعادوا عليه أحاديث قريش في قوتها وخيلائها وعزتها وعظمتها ...وربما قال له بعضهم: «إن هذه قريش ما ذُلّت منذ عزت » .وكانوا يؤكدون له ذلك ،والنبي يستمع إليهم ،ولكنه لا يلقي بالاً لكل ما يقولونه ،لأنه قد عزم الأمر ،ولم يعد هناك مجالٌ للتفكير أمام وضوح الرؤية للحق .
{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} .وتلك هي حالتهم النفسية المتوتّرة لما كانوا يعيشونه من رعب وفزع ،تماماً كما هي حال المحكوم بالإعدام الذي يمشي إلى الموت أمام جلاّديه ،فهو يتطلع إلى المصير المحتوم بعينيه الخائفتين الغائمتين ...وتتردد في مشاعرهم القلقة كلمة الخوف الساحق .إنها قريش ،كيف نقاتل قريش بكل قوتها وجبروتها ؟إنه الموت الذي نواجهه ويواجهنا من دون أيّة فرصةٍ للهرب .وذلك هو الفريق الذي لا يمثل الغالبيّة الكبيرة من المسلمين .وهذا ما يحدثنا عنه ابن الأثير في تاريخه ،في سياق حديثه عن تفاصيل معركة بدر: «فأقبل رسول الله( ص ) على أصحابه وقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ،ثم استشار أصحابه ،فقال أبو بكر فأحسن ،ثم قال عمر فأحسن ،ثم قام المقداد بن عمرو ،فقال: يا رسول الله امضِ لما أمرك الله فنحن معك ،والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قاعِدُونَ} [ المائدة: 24] ،ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماديعني مدينة الحبشةلجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .فدعا له بخير ،ثم قال رسول الله( ص ): أشيروا عليّ أيها الناس .وإنما يريد الأنصار لأنهم كانوا عدته للناس ،وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة ،وليس عليهم أن يسير بهم .فقال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟قال: أجل .قال: قد آمنا بك وصدّقناك ،وأعطيناك عهودنا ،فامض يا رسول الله لما أمرت ،فوالذي بعثك بالحق ،إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك ،وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً .إننا لصبرٌ عند الحرب ،صدقٌ عند اللقاء ،لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ،فسر بنا على بركة الله .فسار رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أبشروا ،فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين »