هذه نتائج النفاق وضعف الإيمان ومرض الحسد في الدنيا ، أما في الآخرة فعذاب أليم ، يبتدئ من وقت قبض أرواحهم ؛ ولذا قال تعالى:
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} .
تصور هذه الآية الكريمة هول عذاب الجحيم ، وتبين أنه من وقت أن تتوفاهم الملائكة الذين أمرهم الله بذلك ، والتوفي مصدر توفاه ، معناه أوفاهم الله أجلهم في الدنيا ، وانتهوا به ، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .
و ( لو ) في قوله تعالى:{ ولو ترى . . . . . . . . . .} حرف امتناع لامتناع ، وهي هنا لتصوير حالهم والعذاب يستقبلهم إذ تتوفاهم الملائكة المأمورة بذلك آجالهم ، وهنا فعل شرط حذف جوابه ، لبيان هوله ، وأن تذهب فيه النفس كل مذهب من حيث إنه لا يدرك كنهه ، ولا تتصور حقيقته في الدنيا ، والمعنى لو عاينت الذين كفروا ، وأرواحهم تقبض ما يجيء بعد ذلك رأيت هولا عظيما ، لا تدركه عقول أهل الدنيا ولا تحيط به أفهامهم ، كقوله تعالى:{ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ( 165 )} ( البقرة ) .
ويقول الزمخشري:إن ( لو ) إذا دخلت على المضارع جعلت معناه ماضيا ، فمعنى لو ترى:لو عاينت ورأيت الذين ظلموا إلى آخره ، وكان التعبير بالمضارع لتصوير الماضي حاضرا مرئيا مهيئا ليتصور ما يكون ويراه كأنه حاضر ، والتعبير بالذين كفروا لبيان أن السبب في هذه الشدة التي يكونون عليها هو كفرهم ، وهو مقابل لطغيانهم وتمردهم وعنادهم للحق في الدنيا ، فإنه بسبب ذلك الطغيان ، يكون الإذلال والخسران والهوان .
وقد صور حالهم فقال:{ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} وهذا تصوير لحال ذلهم الذي يقابل اغترارهم واستكبارهم عن الحق ، فتضرب الوجوه التي تكون بها المواجهة ، وضرب الوجوه لا يكون لمن يعاملون بالصغار والهوان ، وهذا عقاب معنوي شديد ، وأدبارهم ، أي يركلون بالأرجل في أدبارهم كما تضرب بالأيدي وجوههم ، فهم في مهانة تحيط بهم ، أو أن المهانة والمذلة تحوط بهم من الأمام والخلف ، وذلك تصوير لذلهم بعد الغطرسة ، والاستهانة بهم بعد الغرور .
وذلك بلا ريب عقاب معنوي ، بالتحقير في مقابل تكريم المؤمنين الذين كانوا يقولون:{ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ( 27 )} ( هود ) .
وقد بين بعد ذلك العذاب المعنوي فقال:{ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} وهي معطوفة على قوله تعالى:{ يضربون وجوههم} وذلك بتقدير فعل محذوف تقديره ، ويقولون لهم ذوقوا عذاب . . . . . . . . ، أو تقول:إن هذا فعل أمر في معنى الخبر ، ويكون ويذوقون عذاب الحريق ، وعبر سبحانه وتعالى عن إصابة العذاب لهم بقوله:{ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} للإشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بالإحساس به ، فهم في إحساس دائم به ، يذوقونه ويحسون به ، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب .
والحريق هو النار المحترقة التي لا يطيقها إحساس محس إلا أن يكون عذابا .
وإن التعبير بقوله:{ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} لا يخلوا من تهكم بهم ؛ لأنهم فسقوا وذاقوا من الهوى ما ذاقوا ، فكأنه يقال لهم:كما ذقتم المتع والشهوات ، فذوقوا الحريق ، وكأنه يبشرهم .
وقد قال بعض المفسرين:إن ذك ضرب الوجوه ، وضم الأدبار إليهم تذكير لهم بشهوتهم التي كانوا منغمسين فيها وأنهم يضربون فيها ، كما وقعوا في المفاسد بها والله تعالى أعلم .