المعركة:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ( 9 ) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 10 ) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ( 11 ) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( 12 ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 13 ) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ( 14 )
كان النص القرآني السامي يحث المسلمين على أن يطلبوا الجهاد ، بطلب الطائفة ذات الشوكة ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامهم يستحثهم ويستوثق منهم ، حتى لا تغلبهم الدنية في دينهم ، وقد ظهر أنهم يودون غير ذات الشوكة ، حتى إذا دانت الواقعة كان مع الاستعداد بالقلوب ، والاطمئنان كان لابد من الالتجاء إلى الله تعالى ليكون الغوث ، وليكون النصر ، فهم مؤمنون ، وليسوا مغرورين ؛ ولذلك لابد من الالتجاء إلى الله ، وخصوصا من الرسول الذي أحس بأن عليه العبء الأكبر ، فاستغاث هو ومن معه بالله ، وكان هو أظهرهم قال تعالى:
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ( 9 )} .
والاستغاثة طلب الغوث ، و ( إذ ) ظرف يكون للماضي ، وهو هنا للماضي المتصل بالحاضر ، كما في قوله تعالى:{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ . . . . . . . . ( 8 )} وجاء المضارع بعدها لتصوير الاستغاثة وأنها كانت التجاء متجددا مستمرا لله تعالى .
وقد روت استغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كانت ضراعة له سبحانه وتعالى ، وروى مسلم والإمام أحمد ، وغيرهما من الصحاح عن عمر ابن الخطاب أنه قال:( لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبلة ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال:( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا ) فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال:يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ) ( 1 ){[1152]} .
هذه هي استغاثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي استغاثة من معه ، فهو إمام الصلاة استغاثته استغاثة لهم ، كما أن الإمام قراءته قراءة للمأمومين ، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما اتجه إلى الاستغاثة اتجه إلى القبلة ، وكأنها صلاة ، يمم وجهه فيها شطر المسجد الحرام .
وقد استجاب الله تعالى لاستغاثة نبيه ، فقال تعالى:{ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} .
( الفاء ) للعطف الدال على الفورية ، أي أن الإجابة كانت فور الدعاء ، وكذلك دعاء النبيين ومن معهم من الصديقين والشهداء والصالحين .
والاستجابة بالسين والتاء هي شدة الإجابة كأحسن ما تجاب به الاستغاثة ؛ لأنها استغاثة لله تعالى فهي إيمان لأجل قوة الإيمان وعزة المؤمنين ، وقرنت الإجابة بما يدل على قوتها ، فهي من ربكم الذي يكلؤكم ، ويرعاكم ، وذكر الاختصاص في قوله سبحانه:{ لكم} ، أي لإجابة لكم أنتم من ربكم ولا إجابة لغيركم لأنكم على الحق ، وتدعون للحق .
وفسر سبحانه وتعالى الاستجابة بقوله:{ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} . هنا ثلاث قراءات في ( ألف ) ، فقرئ ب ( ألف ) ، ويكون الإمداد بألف من الملائكة على قدر عدد المشركين ، فإنه إذا كان عددكم ثلاثمائة ونيفا وعددهم ألف ، فقد أمدكم اله تعالى بألف من الملائكة ، فيكون العدد في الحسبة متساويا أو تزيدون .
وهناك قراءة أخرى ب ( آلف ) ، جمع ألف ، على وزن أفعل ، وبذلك لا يكون العدد محدودا بل بألوف ، وذكر الزمخشري قراءة ثالثة وهي ( آلاف ) ، والرسم الإملائي العثماني القرآني غير المنقوط والمشكول يحتمل القراءات الثلاث .
و ( مردفين ) أي متتابعين ، مشتقة من أردف ، وهي لغة في ردف بفتح الدال وهي قراءة ( 1 ){[1153]} ، والمعنى أنهم جاءوا وقد أردف بعضهم ببعض .
وهنا تقرر أن الله تعالى أمدهم بألف أو عدد من الألوف ، وذلك أمر لا ريب ، ولا تناقض بين الإمداد بآلاف ، أو بآلاف ، فالمراد جنس الألف لا تعيين العدد .
ولكن كيف كان الإمداد ، جاء في روايات لم نرها في صحاح السنة أنهم صوروا بالإنس ، وكان بعض الناس يرى سيوفا لا يرى حاملوها .
ولكن الثابت في الصحاح أنه كان إمدادا من غير أن يتعرض لبيان أنهم كانوا بصور إنسانية أم لم يكونوا ، وهذا ما نراه .
وإذا لم تكن ثمة صور أو أجسام إنسانية ، فإننا نقرر أنه كان إمدادا روحيا ، ومن الإمداد الروحي شحذ العزائم وطمأنينة نفوسهم وإبعاد الشياطين ومنازع الشيطان ، وهذا بلا ريب من إمداد الله بالملائكة ، فهو حقيقة ثابتة ، وإنه يؤيد أن الإمداد روحي – آمنا بحقيقته وجهلنا كيفيته – قووله تعالى:
{ وما جعله الله إلا بشرى} .