ولهذا الفجور الذي يبدر من ألسنتهم ويدل على قلوبهم ، قال الله تعالى:{ لا تعتذروا} ؛ لأن كل اعتذار يلقون فيه أنفسهم بهاوية من الكفر أشد مما هم فيه ، فقال تعالى:{ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} .والنهي هنا على حقيقته ، فالله تعالى ينهاهم عن الاعتذار ؛ لأن الاعتذار يؤدي إلى أن يقعوا في ذنب أشد مما يعتذرون عنه لحميتهم ، وجهالتهم بسبب النفاق الذي أركس نفوسهم في الشر ، أو نقول النهي للتهكم باعتذارهم الذي يجعلهم يعترفون بأفحش ذنوبهم .
والاعتذار محو أثر الذنب ، وأصله القطع ، واعتذرت إليه قطعة ما في قلبه من الموجدة ، فهم يحاولون إزالة ما أوجده كلامهم من كفر ، فيزيدون الذنوب .
والاستهزاء استخفاف ، فإذا كان الله وآياته ورسوله فهو كفر ، ولذا قال تعالى في اعتذارهم وإقرارهم بالاستهزاء{ قد كفرتم بعد إيمانكم} وقد أكد الله تعالى كفرهم ب{ قد} الدالة على التحقيق فأكد الله تعالى كفرهم ، وقوله تعالى:{ بعد إيمانكم} والنفاق ليس فيه إيمان ، والمنافق ليس بمؤمن ، ولكنه يظهر الإيمان ، ويكون بعد إيمانكم أي بعد إظهار إيمانكم ، فكشفتم كفركم بعد ستره ، فافتضح أمركم بعد أن سترتموه ، أو نقول:إنه كان فيهم ضعفاء الإيمان ، فكان اشتراكهم معه في الاستهزاء والسخرية بالله تعالى وآياته ورسوله كفرا لهم بعد إيمان كان فيهم ، وإن كان ناقصا ، وإني أختار هذا ، والله تعالى أعلم .
ثم يقول سبحانه:{ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} ، إن عفو الله منوط بالتوبة ، الطائفة التي يعفو الله عنها هي التائبة ، فالتوبة تجب ما قبلها ، وقد كان في هؤلاء الذين خاضوا ولعبوا وتعابثوا ، من تاب وأناب .
وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسيره نقلا عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس:وكان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول:اللهم إني أسمع آية أن أعنى بها( أي لأنه كان ممن خاضوا بها ) تقشعر منها الجلود ، وتوجل منها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقول أحد أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت . فأصيب يوم اليمامة ، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره .
هؤلاء هم الذين عفا الله عنهم ، وهذا أحدهم لقد تاب فعفا الله عنه وصار من الشهداء الصديقين ، وأسند سبحانه العفو والعذاب إليه سبحانه تعظيما لمقام العفو ، وتهديدا بأهل العذاب ، ولقد بين سبحانه العذاب ، بقوله تعالى:{ بأنهم كانوا مجرمين} الإجرام الذنب الكبير الذي يكون له جرم ، وتفعله الجوارح ، وتكتسبه النفس ، وقد أشار سبحانه إلى أنهم مستمرون على إجرامهم ولم يتوبوا ، ولذلك يتأكد إجرامهم واستمرارهم عليه ، وعدم انخلاعهم عنه ، فقد أكد الإجرام بالجملة الاسمية ، و( أن ) الدالة على تأكيد ما بعدها ، و( كان ) التي تؤكد القول ، وتدل على استمراره .