/م64
{ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} أي قد كفرتم بهذا الخوض واللعب بعد إيمانكم ، فاعتذاركم إقرار بذنبكم ، وإنما الاعتذار الإدلاء بالعذر ، وهو بالضم ما يراد به محو الذنب وترك المؤاخذة عليه ، وأنتم قد جئتم بما يثبت الذنب ويقتضي العقاب ، أو هو كما قيل:«عذر أقبح من الذنب » .يقال اعتذر إليّ عن ذنبه فعذرته [ من باب ضرب] ، أي قبلت عذره ورفعت اللوم عنه ، وهو على الراجح المختار مأخوذ من عذر الصبي يعذرهأي ختنه ، فعذره تطهيره بالختان ، إذ هو قطع لعذرته أي قلفته التي تمسك النجاسة .
فإن قيل:ظاهر هذا أنهم كانوا مؤمنين فكفروا بهذا الاستهزاء الذي سموه خوضا ولعبا ، وظاهر السياق أن الكفر الذي يسرونه هو سبب الاستهزاء الذي يعلنونه ، قلنا:كلاهما حق ، ولكل منهما وجه:
فالأول:بيان لحكم الشرع ، وهو أنهم كانوا مؤمنين حكماً ، فإنهم ادعوا الإيمان ، فجرت عليهم أحكام الإسلام ، وهي إنما تبنى على الظواهر ، والاستهزاء بما ذكر عمل ظاهر يقطع الإسلام ويقتضي الكفر ، فبه صاروا كافرين حكما ، بعد أن كانوا مؤمنين حكماً .
والثاني:وهو ما دل عليه السياق هو الواقع بالفعل ، والآية نص صريح في أن الخوض في كتاب الله وفي رسوله وفي صفات الله تعالى ووعده ووعيده ، وجعلها موضوعا للعب والهزؤ ، كل ذلك من الكفر الحقيقي الذي يخرج به المسلم من الملة ، وتجري عليه به أحكام الردة ، إلا أن يتوب ويجدد إسلامه .
ثم قال تعالى:{ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} الطائفة مؤنث الطائف ، من الطوف أو الطواف حول الشيء .والطائفة من الناس الجماعة منهم ومن الشيء القطعة منه ، يقال:ذهبت طائفة من الليل ومن العمر ، وأعطاه طائفة من ماله ، وإذا أريد بالطائفة الجماعة كان أقلها ثلاثة على قول الجمهور في الجمع .والخطاب هنا للمعتذرين أو الجملة المنافقين ، فإن كانت هذه الآية مما أمر الله رسوله أن يقوله لهم كالذي قبله فالمراد بالعفو والتعذيب ما يفعله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وإلا كان المراد ما سيكون في الآخرة ، والمعنى أننا إن نعف عن بعضكم بتلبسهم بما يقتضي العفو وهو التوبة والإنابة[ ومنهم مخشي بن حمير] نعذب بعضا آخر باتصافهم بالإجرام ورسوخهم فيه وعدم تحولهم عنه ، أي بالإصرار على النفاق وما يستلزمه من الجرائم الظاهرة ، وهذا التقسيم عقلي ؛ إذ لا يخلو حالهم من التوبة أو الإصرار ، فمن تاب من كفره ونفاقه عفي عنه ، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به ، فإن كان الوعيد من النبي صلى الله عليه وسلم فمعناه أن هذا ما سننفذ حكم الشرع عليكم به عند الرجوع من دار الحرب إلى دار الإسلام ، لأن دار الحرب لا تقام فيها الحدود وأمثالها من الأحكام ، والمختار عندنا أنه من الله تعالى ، وأن المراد به عفو الله وتعذيبه في الآخرة .وقال الضحاك:يعني أنه إن عفا عن طائفة منهم فليس بتارك الآخرين .
فإن قيل:إنه بين سبب التعذيب وهو الإصرار على الإجرام ، ولم يبين سبباً للعفو ، أفليس هذا دليلاً على أنه لمحض الفضل ؟
قلنا:إن ما بينه يدل على ما لم يبينه ، فإنه لما ذكر أنهم كفروا بعد إيمانهم ، دل على أنهم استحقوا العذاب بكفرهم ، فبيانه بعد هذا السبب تعذيب بعضهم دال على أن التعذيب ينتفي بانتفاء هذا السبب ، وإنما يكون ذلك بترك النفاق وإجرامه والتوبة منهما ، والأدلة العامة تدل على أن الوعيد على الكفر لا بد من نفوذه على من لم يتب منه ، وأن الوعيد على الذنوب بعضه ينفذ وبعضه يدركه العفو .
وأما عدد من يتوب ويعفى عنه ، وعدد من يصر ويعاقب بالفعل من كل من الطائفتين ، فيصح أن يكون واحدا أو اثنين أو أكثر ، فإن كان واحدا فلا يسمى طائفة وإنما يكون واحدا من الطائفة ممثلا لها ، وروي عن الكلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزؤوا بالله وبرسوله وبالقرآن ، قال:وكان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له يزيد بن وديعة ، فنزلت{ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} فسمي طائفة وهو واحد اه .وبناء على هذه الرواية قال من قال إن الطائفة من الواحد إلى الألف ، وروي عن مجاهد ومن زعم أنها تطلق على الرجل والنفر ، وروي عن ابن عباس ، وهو غلط ، والراوية المذكورة عن الكلبي لا تقتضيه ، وهي لا تصح سندا ؛ فالكلبي متروك ، ولا معنى ؛ فإن الذي كان يسير مجانبا لهم لا يتناوله وعيدهم ، ولكن المتعلقين بالروايات يحكمونها في العقائد والأحكام ، أفلا يحكمونها في اللغة أيضا فيقولون:إن الواحد يسمى طائفة ؟ وقد حافظ بعض المفسرين على اللغة في هذه الرواية فقالوا:إن التاء في طائفة للمبالغة كراوية لكثير الرواية ، وهو غير ظاهر هنا ، وإنما الظاهر ما شرحناه ولله الحمد والمنة .والظاهر أن أكثر أولئك المنافقين قد تابوا واهتدوا بعد نزول هذه السورة التي نبأتهم بما في قلوبهم كما سيأتي قريبا .
وقد ظهر بما قررناه وجه الاتصال بين الشرط والجزاء ، بما سقط به استشكال بعض كبار العلماء كسلطانهم العز بن عبد السلام ، واستغنينا به عما تكلفه المتكلفون لحل الإشكال .