/م67
قال عزَّ وجلَّ:{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} أي أهل النفاق من الرجال والنساء متشابهون فيه وصفاً وعملاً كأن كلاً منهم عين الآخر كما قيل:
تلك العصا من هذه العصيّههل تلد الحية إلا حيه{[1604]}
وكما قال تعالى في آل إبراهيم وآل عمران:{ ذرية بعضها من بعض}[ آل عمران:34] ، وفي استجابته لدعاء الذاكرين المتفكرين{ لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} [ آل عمران:195] ، ثم بين هذا التشابه بقوله:{ يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم} ، المنكر الشرعي ما ينكره الشرع ويستقبحه ، والمنكر العقلي والفطري ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة ، لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة ، والشرع هو القسطاس المستقيم في ذلك كله ، والمعروف ما يقابل المنكر مقابلة التضاد ، ومن المنكر الذي يأمر به بعضهم بعضا الكذب والخيانة وإخلاف الوعود والفجور والغدر بنقض العهود ، قال صلى الله عليه وسلم:( آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ){[1605]} رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة ، وفي حديث آخر( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها:إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ){[1606]} ، رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة من حديث عبد الله بن عمرو .ومن المعروف الذي ينهون عنه الجهاد وبذل المال في سبيل الله للقتال وغير القتال كقولهم الذي ذكر في سورتهم:{ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} [ المنافقون:7] .
وقبض الأيدي ضم أصابعها إلى باطن الكف ، وهو كناية عن الامتناع من البذل ، كما أن بسط اليد كناية عن الإنفاق والبذل ، فهم ينهون الناس عن البذل ، ويمتنعون منه بالفعل ، واقتصر من منكراتهم الفعلية على هذا لأنه شرها وأضرها ، وأقواها دلالة على النفاق ، كما أن الإنفاق في سبيل الله أقوى الآيات على الإيمان ، والآيات في هذا الإنفاق كثيرة جدا ، تقدم كثير منها في سورتي البقرة والأنفال وهذه السورة:
{ نسوا الله فنسيهم} أي نسوا الله أن يتقربوا إليه بالإنفاق في سبيله وغير ذلك من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ، يعني أنهم لرسوخهم في الكفر لم يعد يخطر ببالهم أن له تعالى عليهم حق الطاعة والشكر ، فهم لا يذكرونه بشي من أعمالهم ، وإنما يتبعون فيها أهواءهم من الرياء ووسوسة الشيطان .وقد حذرهم ربهم طاعة الشيطان ولا سيما في البخل فقال:{ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا} [ البقرة:268] ، الفحشاء ما فحشقبحه وعظم كالزنا واللواط والبخل الشديد ، وفسرت به في الآية كما فسر الفاحش بالبخيل في قول طرفة بن العبد في معلقته:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفيعقيلة مال الفاحش المتشدِّدِ{[1607]}
وأما نسيان الله تعالى لهم فهو عبارة عن مجازاتهم على نسيانهم إياه بحرمانهم من فوائد ذكره ، وفضيلة التقرب إليه بالإنفاق والجهاد في سبيله ، وغير ذلك من توفيقه ولطفه في الدنيا ، وحرمانهم من الثواب على ذلك في الآخرة كما سيأتي قريباً في قوله:{ حبطت أعمالهم} [ البقرة:217] ، فالمراد بالنسيان لازمه ، وهو جعلهم كالمنسي الذي لا يتعهد ولا يعتنى بشأنه ، لا كالمنسي مطلقاً .
{ إن المنافقين هم الفاسقون} الراسخون في الفسوق -وهو الخروج من محيط الإيمان وفضائله- الناكبون عن صراطه المستقيم إلى طرق الشيطان ورذائله ، وقد تقدم قريباً قوله تعالى:{ إنكم كنتم قوماً فاسقين} [ التوبة:53] ، وهو في طائفة منهم ، فلم يذكر بصيغة الحصر ؛ لأنه لا يصح فيهم ، وإنما صح هنا لأنه في جنس المنافقين ، والحصر فيهم إضافي ، فهم أشد فسوقاً من جميع أجناس العصاة ، حتى الكفار الذين يعتقدون صحة عقائدهم الباطلة وتعاليمهم المنكرة فلا يبلغ فسوقهم وخروجهم من طاعة الله بمخالفة دينهم ، ولا الخروج من فضائل الفطرة السليمة ، حد فسوق المنافقين الذين يخالف ظاهرهم باطنهم ، والمرجع في تفصيل حالهم إلى ما تقدم من الآيات في أوائل سورة البقرة وفي آيات من سورة النساء ، وناهيك بما تقدم من هذه السورة وما تأخر .