/م64
قال تعالى:{ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} روي فيمن نزلت فيهم هذه الآية عدة روايات نذكر أمثلها:أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين ؟ فقالوا أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها ؟ هيهات هيهات .فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:( احبسوا عليّ هؤلاء الركب ) ، فأتاهم فقال قلتم كذا ، قلتم كذا .قالوا:يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فأنزل الله فيهم ما تسمعون .وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال:بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره وأناس من المنافقين يسيرون أمامه فقالوا:إن كان ما يقول محمد حقا فلنحن شر من الحمير ، فأنزل الله تعالى ما قالوا ، فأرسل إليهم:ما كنتم تقولون ؟ فقالوا:إنما كنا نخوض ونلعب .
وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال:قال مخشي بن حمير لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منكم مائة على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر ( أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا ، فإن هم أنكروا وكتموا فقل بلى قد قلتم كذا وكذا ) فأدركهم فقال لهم فجاؤوا يعتذرون ، فأنزل الله{ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم} [ التوبة:66] الآية .فكان الذي عفا الله عنه مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله ، فقتل باليمامة لا يعلم مقتله ولا من قتله ولا يرى له أثر ولا عين .وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال:نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين من بني عمرو بن عوف فيهم وديعة بن ثابت ورجل من أشجع حليف لهم يقال له مخشي بن حمير ، كانوا يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض:أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم ، والله لكأنا بكم غدا تقادون في الحبال .قال مخشي بن حمير:لوددت أني أقاضى ، فذكر الحديث مثل الذي قبله ، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه .
والمعنى أن الله تعالى نبأ رسوله بما كان يقوله هؤلاء المنافقون في أثناء السير إلى تبوك من الاستهزاء بتصديه لقتال الروم الذين ملأ صيتهم بلاد العرب بما كان تجارهم يرون من عظمة ملكهم في الشام ؛ إذ كانوا يرحلون إليها في كل صيف ، نبأه نبأ مؤكدا بصيغة القسم أنه إن سألهم عن أقوالهم هذه يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادين ولا منكرين ، بل هازلين لاعبين ، كما هو شأن الذين يخوضون في الأحاديث المختلفة للتسلي والتلهي ، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول لجهلهم أن اتخاذ أمور الدين لعبا ولهوا لا يكون إلا ممن اتخذه هزواً ، وهو كفر محض ، ويغفل عن هذا كثير من الناس يخوضون في القرآن والوعد الوعيد ، كما يفعلون إذ يخوضون في أباطيلهم وأمور دنياهم ، وفي الرجال الذين يتفكهون بالتنادر عليهم والاستهزاء بهم وإنما يستعمل «الخوض » فيما كان بالباطل لأنه مأخوذ من الخوض في البحر أو في الوحل ، فيراد به الإكثار ، والتعرض لتقحم الأخطار ، وقال تعالى في سورتي الزخرف والمعارج{ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون} [ الزخرف:83] ، وقال في سورة الطور:{ فويل للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون} [ الطور:11 ، 12] ، وقال في سورة النساء:{ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا} [ النساء:140] ، وقد بينا في تفسير هذه الآية أن الخطاب فيها لكل من يظهر الإسلام من مؤمن ومنافق ، وأنه يدخل في عمومها المبتدعون المحدثون في الدين ، والذين يخوضون في الداعين إلى الكتاب والسنة ويستهزئون بهم لاعتصامهم بهما وإيثارهم إياهما على المذاهب المقلدة ( راجع ج5 تفسير ) .
وبعد أن نبأ الله تعالى رسوله بما يعتذرون به لقنه ما يرد به عليهم بقوله:{ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} والمعنى أن الخوض واللعب إذا كان موضوعه صفات الله وأفعاله وشرعه وآياته المنزلة وأفعال رسوله وأخلاقه وسيرته كان ذلك استهزاء بها ، لأن الاستهزاء بالشيء عبارة عن الاستخفاف به ، وكل ما يلعب به فهو مستخف به ، وقد حررنا معنى اللفظ في تفسير ما أسنده تعالى إلى المنافقين من قولهم لشياطينهم:{ إنا معكم إنما نحن مستهزؤون} [ البقرة:14] ، أي بقولنا للمؤمنين آمنا كما أن من يحترم شيئا أو شخصا أو يعظمه فإنه لا يجعله موضوع الخوض واللعب .وتقديم معمول فعل الاستهزاء عليه يفيد القصر ، والاستفهام عنه للإنكار التوبيخي ، والمعنى:ألم تجدوا ما تستهزؤون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما ، فهل ضاقت عليكم جميع مذاهب الكلام تخوضون فيها وتعبثون دونهما ، ثم تظنون أن هذا عذر مقبول فتدلون به بلا خوف ولا حياء ؟