/م64
أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله تعالى:{ يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم} قال:يقولون القول فيما بينهم ، ثم يقولون عسى أن لا يفشى علينا هذا .وأخرجوا -إلا الأول منهم- عن قتادة قال:كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين ، وكان يقال لها المنبئة أنبأت بمثالبهم وعوراتهم .
الجمهور على أن جملة [ يحذر] خبر على ظاهرها ، وعن الزجاج أنها إنشائية في المعنى ، أي ليحذروا ذلك ، وهو ضعيف .فالحذر –كالتعب- الاحتراز والتحفظ مما يخشى ويخاف منه كما يؤخذ من مفردات الراغب وأساس البلاغة[ في مادتي ح ذر ، وح رز] ويستعمل في الخوف الذي هو سببه ، وقد استشكل هذا الحذر منهم وهم غير مؤمنين بالوحي ، وأجاب أبو مسلم عن هذا الإشكال بأنهم أظهروا الحذر استهزاء ، وأجاب الجمهور بما حاصله أن أكثر المنافقين كانوا شاكين مرتابين في الوحي ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يكونوا موقنين بشيء من الإيمان ولا من الكفر ، فهم مذبذبون بين المؤمنين الموقنين والكافرين الجازمين بالكفر ، ومنهم من كان شكه قوياً ، ومن كان شكه ضعيفاً ، وتقدم شرح حالهم وبيان أصنافهم في أول سورة البقرة فراجع تفسيره وما فيه من بلاغة المثلين اللذين ضربهما الله تعالى لهم .وهذا الحذر والإشفاق أثر طبيعي للشك والارتياب ، فلو كانوا موقنين بتصديقه لما كان هناك محل لهذا الخوف والحذر لأن قلوبهم مطمئنة بالإيمان .
واختلف المفسرون في ضمير{ عليهم} قال بعضهم:هو للمنافقين المذكورين والمراد بنزوله عليهم في شأنهم ، وبيان كنه حالهم ، كقوله تعالى:{ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} [ البقرة:102] أي في شأن ملكه .ويقال:كان كذا على عهد الخلفاء ، أي في عهدهم وزمنهم .والمراد بإنبائهم بما في قلوبهم لازمه وهو فضيحتهم وكشف عوارهم ، وإنذارهم ما قد يترتب عليه من عقابهم ، وقال آخرون:هو للمؤمنين أي يحذر المنافقون أن ينزل على المؤمنين آية تنبئهم بما في قلوبهم أي قلوب المنافقين الحذرين من الشك والارتياب وتربص الدوائر بهم أي بالمؤمنين ، وغير ذلك من الشر الذي يسرونه في أنفسهم ، والأضغان التي يخفونها في قلوبهم .قيل:فيه تفكيك للضمائر ، وأجيب بأن تفكيك الضمائر غير ممنوع ، ولا ينافي البلاغة إلا إذا كان المعنى به غير مفهوم .
ولنا في هذا المقام بحثان:أحدهما:أنه ليس ههنا تفكيك للضمائر ، فإنه قد سبق أن المنافقين يحلفون للمؤمنين ليرضوهم ، وقد وبخهم الله تعالى على اهتمامهم بإرضاء المؤمنين دون إرضاء الله ورسوله وهما أحق بالإرضاء ، وأوعدهم على ذلك بأنه محادة لله ورسوله يستحقون بها الخلود في النار ، ثم بين بطريقة الاستئناف سبب حلفهم للمؤمنين واهتمامهم بإرضائهم ، بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ، فتبطل ثقتهم بهم ، فأعيد الضمير على المؤمنين لأن سياق الكلام فيهم .
والبحث الآخر:أن إنزال الوحي يعدى بإلى وبعلى إلى الرسول الذي يتلقاه عن الله تعالى ، ويعدى بهما إلى قومه المنزل ليتلى عليهم لأجل هدايتهم ، وكلا الاستعمالين مكرر في القرآن .قال تعالى:{ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} [ البقرة:136] الخ ، وقال:{ قل آمنا بالله وما أنزل علينا}[ آل عمران:84] الخ ، وقال:{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم}[ الأعراف:3] ، وقال:{ واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [ البقرة:231] ، وقال:{ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ؟} [ الأنبياء:10] .
قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون} استدل أبو مسلم الأصفهاني بهذا الجواب على أن المنافقين أظهروا الحذر مما ذكر استهزاء ، ولم يكونوا يحذرون ذلك بالفعل لعدم إيمانهم ، ويرده إسناد الحذر إليهم في أول الآية وآخرها ، ولو صح هذا لذكر ذلك عنهم بالحكاية فأسند الحذر إلى قولهم ولم يسنده إليهم ، كما أسند إليهم كثيراً من الأقوال في هذه السورة وغيرها ، ومنها قوله تعالى في أوائل سورة البقرة:{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون} [ البقرة:14] ، ويؤيد وقوع الحذر منهم قوله تعالى في السورة المضافة إلى اسمهم{ يحسبون كل صيحة عليهم} [ المنافقون:4] ، وفي الآية التالية لهذه الآية بيان لضرب آخر من استهزائهم في هذا المقام من سياق غزوة تبوك ، فالاستهزاء دأبهم وديدنهم ، وحذرهم من تنزيل السورة ليس من هذا الاستهزاء ، بل من خوف عاقبته ، وإنما العجب من أمرهم استمرارهم عليه مع هذا الحذر ، وأما أمرهم به فهو للتهديد والوعيد عليه وبيان كونه سببا لإخراجه تعالى ما يحذرون ظهوره من مخبآت سرائرهم ، ومكنونات ضمائرهم ، والأصل في الإخراج أن يكون للشيء الخفي المستتر ، أو المتمكن المستقر .ومن الأول قوله تعالى في المنافقين:{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم} [ محمد:29] وقوله بعده:{ ويخرج أضغانكم} [ محمد:37] ، ومنه إخراج الموتى بالبعث ، وإخراج الحب والنبات من الأرض ، ومثله في التنزيل كثير .ومن الثاني النفي من الأوطان والديار وفيه آيات كقوله تعالى:{ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} [ الحج:40] .فقوله تعالى:{ مخرج ما تحذرون}[ التوبة:64] معناه أنه مخرجه الآن بتنزيل هذه السورة التي لم تدع في قلوبهم شيئا من مخبآت نفاقهم إلا أخرجته وأظهرته لهم وللمؤمنين .