المنافق دائما حذر من أن ينكشف أمره ، وقد رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزل عليه الوحي ويخبره بكشف أمر المنافقين ، فكانوا يخشون إذا نزلت سورة أن يكون فيها كشف لأمر من أمورهم ، فقال تعالى:{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( 64 )} .
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} ، إخبار عن المنافقين بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة ، والحذر يكون دائما من شأن من يستر شيئا ؛ لأنه يخشى أن ينكشف ، وإذا كشف ضاع الغرض الذي ستره من أجله ، والسورة الجزء من القرآن المفصول عن غيره كأنه سور بسور يحده ، والتنزيل من الله تعالى على نبيه الكريم ، فلا تنزل على المنافقين ، إنما تنزل على قلب محمد الأمين ، فكيف تنزل عليهم ، ولكن المراد أنها تنزل في شأنهم ، وكانت التعدية ب ( على ) للإشارة إلى أنها تنزل عليهم كالصاعقة يفاجئون بها ، وعلى ذلك يكون الضمير في{ عَلَيْهِمْ} يعود إلى المنافقين ، وكذلك الضمير في{ تُنَبِّئُهُمْ} ، وقوله تعالى:{ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} ويصح أن يكون قوله تعالى:{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} ، في معنى الأمر ، وكثيرا ما تجيء الصيغة الخبرية بمعنى الأمر ، كما في قوله تعالى:{ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين . . . ( 233 )} ( البقرة ) ، وكما في قوله تعالى:{ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . . . . . . ( 228 )} ( البقرة ) فإن الخبر في كل هذه الصيغ يدل على الطلب .
ولكن تخريجها بمعنى الخبر أولى ؛ لأنه يناسبه قوله تعالى في الآية:{ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} .
والزمخشري يرى أن الضمير في{ عَلَيْهِمْ}و{ تُنَبِّئُهُمْ} ، يعود على المؤمنين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن الشأن في النزول القرآني أن ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن معه من المؤمنين ، وأما الضمير في قوله تعالى:{ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} ، فإنه يعود على المنافقين ؛ لأنهم الذين يخفون ما لا يبدون ، فالأنسب أن يعود إليهم ، والقرائن تعين عودة الضمائر على هذا النحو .
كان المنافقون يستهزئون في مجالسهم بالنبي بِمَا فِي قُلُوبِهِم وبالمسلمين وبالجهاد ، حتى أنهم كانوا في غزوة تبوك التي كانت ذاهبة إلى الشام يتهكمون على المؤمنين ، ويستهزئون بهم ، ولا يكتفون بالقعود عنهم ، ولقد روى إنهم كانوا يقولون مستهزئين:انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات . وكانوا يريدون ألا يطلع على ذلك أحد من المؤمنين ، ولذا قال تعالى:{ قُلِ اسْتَهْزِؤُوا} ، هذا أمر للتهديد ، كقولك للمجرم الذي بدا إجرامه:افعل ما شئت ، وكقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) ( 1 ){[1248]} .
{ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} ، أي إن الله تعالى كاشف ما تأمرون به ، وما تستهزئون به من قول يكشف عن نفاقكم ، وفي قوله تعالى:{ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} ، أي أن يخرج ، تأكيد لإخراج هذا الأمر الذي يحذرون خروجه ، أولا بالجملة الاسمية ، و{ إن} ، الدالة على توكيد الخبر ، وفي التعبير بلفظ الجلالة الذي يربي الرهبة والخوف في النفس ، وقوله:{ مخرج} فيه إشارة إلى مبالغتهم في الحذر ، كأنهم دفنوه فأخرج من دفين نفوسهم .
ولقد جاء في تفسير أبي مسلم أن قوله تعالى:{ يحذر المنافقون . . . . . . .} من قبيل تهكمهم على القرآن ، فقال هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر كلامهم ويدعى انه من الوحي ، وكان المنافقون يكذبون ذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا إظهاره ، ولذلك قال تعالى:{ قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ} ، أي بالله وآياته ورسوله ، أو افعلوا الاستهزاء ، وهو أمر تهديد{ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} أي مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه .
ويقول إن هذا احتمال ، ولكن السياق القرآني يدل على استهزاء أظهره الله تعالى .
وإن هذه الآية تدل على أنهم يكثرون من الاستهزاء والله مخرج أمورهم ، حتى لا يخدع فيهم مؤمن قال تعالى:{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ( 29 ) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ( 30 )} ( محمد ) .