وأكد سبحانه وتعالى إعراضهم بالحال ، أي أنهم انصرفوا عن الله ، وصار الإعراض حالهم ، التي يعيشون في دائرتهم ، فينتقلون في محيطها من إعراض عن الله تعالى إلى إعراض أوحل في النفاق ، ولذا قال تعالى:{ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون77} .
فأعقبهم أي جعل الله عقب فعلهم هذا نفاقا إلى نفاقهم . أي فازدادوا نفاقا وأوغلوا عما كانوا ، وقال الحسن البصري إن الضمير الفاعل يعود إلى البخل ، أي أن البخل بعد العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه ، زادهم نفاقا ؛ وذاك لأن الاستمرار على المخالفة يزيد النفاق نفاقا ويتراكم بعضهم على بعض حتى يتكاثف ، ويمتلئ القلب نفاقا ، حتى لا مزيد عليه ، وكأنما الأعمال الفاسدة هي الخبث الذي يسقى به نبات النفاق فيزيده ، حتى يستغلظ سوقه .
والأكثرون على أن الضمير الفاعل في قوله تعالى:{ فأعقبهم} يعود على الله ؛ لأنه في النفس دائما ، ولأنه صاحب العهد الذي عاهدوه على الوفاء به ، ومعنى إعقابه سبحانه وتعالى النفاق لهم أنه سبحانه وتعالى وقد ساروا في طريق الغي والضلال أمدهم بما يزيدهم عتوا ونفاقا ، وطغيانا ، فأمدهم في طغيانهم ، وهم الذين ابتدءوه .
{ إلى يوم يلقونه} سبحانه وتعالى ، وعندئذ يكون العذاب الذي أنكروه بعد الحساب بعد أن ترى كل نفس ما فعلت ، وبعد أن يأخذوا كتابهم بشمالهم .
وقد بين سبحانه ما غدى نفاقهم ، وزاده فقال تعالى:{ بما أخلفوا الله ما وعدوه} أي أخلفوا الوعد الذي وعدوه لله تعالى ، وجعل الإخلاف لله ابتداء لبيان جرمهم فيما فعلوا ، إذ إنهم أخلفوا الله تعالى خالقهم وبارئهم ومالك أمرهم ، وأي نكر أشد من ذلك ، وقوله تعالى:{ ما وعدوه} كأنه في مقام البيان لما أخلفوا به رب البرية ، فأي أمر تنكره العقول أبلغ من ذلك ! وأي نفاق أجرا وأمكن من ذلك ! ، أي أنهم زادوا نفاقا إلى نفاقهم بسبب إخلافهم الله ما وعدوه ، وبسبب كذبهم على الله سبحانه وتعالى ، ولذا قال تعالى:{ وبما كانوا يكذبون} .
أي وبسبب استمرارهم على الكذب ، لأن( كان ) تدل على الاستمرار ، والتعبير بالمضارع( يكذبون ) يدل على تجدد كذبهم آنا بعد آن ، فحديثهم كذب مستمر متجدد ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى الفسوق ، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا ، وإذا وصل الإنسان إلى هذا الحد صار منافقا ، وإن كان منافقا ازداد نفاقا على نفاقه .