/م75
{ فأعقبهم نفاقا في قلوبهم} يقال أعقبه الشيء إذا جعله عاقبة أمره وثمرته ، أي فأعقبهم الله تعالى أو أعقبهم ذلك البخل وتولي الإعراض ، بعد العهد الموثق بأوكد الإيمان ، نفاقاً راسخاً في قلوبهم متمكنا منها ملازماً لها .
{ إلى يوم يلقونه} للحساب في الآخرة ، لأنه بلغ المنتهى الذي لا رجاء معه في التوبة .ذلك{ بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} فذكر سببين هما أخص صفات المنافقين وأظهر الآيات الدالة على نفاقهم:إخلاف الوعد والكذب كما تقدم بيانه ونصوص الأحاديث فيه ، فكيف إذا كان الوعد لله تعالى مع العهد والقسم ، وقد عبر عن إخلافهم الوعد بالفعل الماضي لأنه في حادثة وقعت ، وعبر عن كذبهم بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار ، لأن ذلك شأنهم الدائم الذي هو أخص لوازم النفاق ، فالمنافق مضطر إلى الكذب في كل وقت لأن ظاهره يخالف باطنه ، ولا بد له من كتمان ما في باطنه وإظهار خلافه دائما لئلا يظهر فيفتضح ويعاقب ، ولا يحصل ذلك إلا بالكذب .وإسناد إعقابهم النفاق إلى الله تعالى أو إلى البخل والتولي عن الطاعة قولان للمفسرين مآلهما واحد ، إلا أن الثاني آدب .وذلك أن سنته تعالى في البشر أن العمل بما يقتضيه النفاق يمكن النفاق ويقويه في القلب ، كما أن العمل بمقتضى الإيمان يزيده قوة ورسوخاً في النفس ، وهكذا جميع صفات النفس وأخلاقها وعقائدها ، تقوى وترسخ بالعمل الذي يصدر عنها ، فإسنادها إلى العمل يكون صحيحاً بهذا الاعتبار لا بالمعنى الذي تقوله المعتزلة القدرية ، كما أن إسنادها إلى الله تعالى يكون صحيحاً لأنها مقتضى سننه وتقديره ، لا بالمعنى الذي تقوله الجبرية والصوفية ، فالمراد من التقديرين واحد ، ويؤيده ما ورد في سبب النزول وهو:
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى:{ ومنهم من عاهد الله} أن رجلا كان يقال له ثعلبة من الأنصار أتى مجلساً فأشهدهم فقال:لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه ، وتصدقت ، وجعلت منه للقرابة ، فابتلاه الله فآتاه من فضله ، فأخلف ما وعده ، فأغضب الله بما أخلفه ما وعده ، فقص الله شأنه في القرآن اه .
وأخرج الحسن بن سفيان وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والعسكري في الأمثال والطبراني وابن منده والبارودي وأبو النعيم في معرفة الصحابة ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال:جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، قال:( ويحك يا ثعلبة أما ترضى أن تكون مثلي ؟ فلو شئتُ أن يسير ربي هذه الجبال معي لسارت ) .قال:يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، فوالذي بعثك بالحق إن آتاني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه .قال:( ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره ، خير من كثير لا تطيق شكره ) .فقال:يا رسول الله ادع الله تعالى لي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( اللهم أرزقه مالاً ) ، فاتجر واشترى غنما فبورك له فيها ، ونمت كما ينمو الدود ، حتى ضاقت بها المدينة فتنحى بها ، فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يشهدها بالليل .ثم نمت كما ينمو الدود فضاق بها مكانه ، فتنحى به فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الأخبار ، وفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فأخبروه أنه اشترى غنما وأن المدينة ضاقت به ، وأخبروه بخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ويح ثعلبة بن حاطب ) .
ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الصدقات ، وأنزل الله تعالى:{ خذ من أموالهم صدقة} [ التوبة:103] ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين:رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سلمة يأخذان الصدقات ، فكتب لهما أسنان الإبل والغنم كيف يأخذانها على وجهها ، وأمرهما أن يمرا على ثعلبة بن حاطب وبرجل من بني سليم ، فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال:أرياني كتابكما ، فنظر فيه ، فقال:ما هذا إلا جزية ، فانطلقا حتى تفرغا ثم مرا بي ، قال:فانطلقا وسمع بهما السلمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا:إنما عليك دون هذا ، فقال:ما كنت أتقرب إلى الله إلا بخير مالي فقبلاه ، فلما فرغا مرا بثعلبة فقال:أرياني كتابكما فنظر فيه فقال:ما هذا إلا جزية ، انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلمهما:( ويح ثعلبة بن حاطب ) ، ودعا للسلمي بالبركة ، وأنزل الله:{ ومنهم من عاهد الله لئن أتانا الله من فضله لنصدقن} .قال:فسمع بعض من أقارب ثعلبة ، فأتى ثعلبة فقال:ويحك يا ثعلبة أنزل الله فيك كذا وكذا .
قال:فقدم ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله هذه صدقة مالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إن الله تعالى قد منعني أن أقبل منك ) ، قال:فجعل يبكي ويحثي التراب على رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( هذا عملك بنفسك ، أمرتك فلم تطعني ) فلم يقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مضى .ثم أتى أبا بكر فقال:يا أبا بكر اقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار ، فقال أبو بكر:لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلها ؟ فلم يقبلها أبو بكر .ثم ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتاه فقال:يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل مني صدقتي ، وتوسل إليه بالمهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر:لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر أقبلها أنا ؟ فأبى أن يقبلها .ثم ولي عثمان فهلك في خلافة عثمان ، وفيه نزلت{ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات} [ التوبة:79] قال وذلك في الصدقة اه .
وفي الحديث إشكالات تتعلق بسبب نزول الآيات ، وظاهر سياق القرآن أنه كان في سفر غزوة تبوك ، وظاهره أنها نزلت عقب فرضية الزكاة والمشهور أنها فرضت في السنة الثانية وفيه خلاف تقدم في تفسير قسمة الصدقات ، وبعدم قبول توبة ثعلبة وظاهر الحديث ولا سيما بكائه أنها توبة صادقة ، وكان العمل جارياً على معاملة المنافقين بظواهرهم ، وظاهر الآيات أنه يموت على نفاقه ، ولا يتوب عن بخله وإعراضه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه عاملاه بذلك لا بظاهر الشريعة ، وهذا لا نظير له في الإسلام .