وإن أولئك المنافقين كانوا يفرون من الجهاد ، ويفرحون بتخلفهم عنه ، ولقد قال تعالى في ذلك:{ فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون81} .
{ المخلفون} هم الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك وكانت في أشد الحر وفي وقت جنى الثمار والاستنامة إلى الراحة في ظلال الأشجار .
وهم تخلفوا مختارين ، ولم يتخلفوا مجبرين ، ولكن عبر عنهم باسم المفعول للإشارة إلى أن الله تعالى لم يرد انبعاثهم كما قال تعالى:{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين 46}ولذا قال تعالى في النظم السامي{ فرح المخلفون} ، ولم يقل سبحانه ( المتخلفون ) .
ولكن مع أنهم ثبطهم الله فخلفوا لم يكن ذلك بإرادة النبي صلى الله عليه وسلم الظاهرة ، بل إنه عليه السلام دعاهم كما دعا غيرهم ، ولذا قال تعالى:{ بمقعدهم خلاف رسول الله} المقعد مصدر ميمي معناه القعود ، أي بقعودهم مخالفين رسول الله صلى الله عليه وسلم "فخلاف"مصدر بمعنى مخالفين ، وقيل إن( خلاف ) معناها خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى على الحالين ، أنهم فرحوا بقعودهم وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤثرين أن يكونوا من النظارة الذين لا يخوضون الحروب ، وأن يكونوا كالنساء قاعدات في أخدارهن ، وقال تعالى في الباعث الذي بعثهم على هذه الحال المزرية بالرجال فقال تعالت كلماته:{ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}كرهوا أن يخرجوا مجاهدين بإنفاق أموالهم ؛ لأنهم بخلاء في كل ما هو خير ، وكرهوا أن يجاهدوا بأنفسهم؛ لأنهم جبناء أولا ، وأنهم لا يؤمنون بالله ، ولا يجاهدون في سبيله ثانيا ، وقال سبحانه:{ وكرهوا أن يجاهدوا} ولم يقل كرهوا أن يخرجوا ، مع أن الكراهة ابتدأت بالتثاقل في الخروج ، بل قال:{ وكرهوا أن يجاهدوا} للإشارة إلى سبب عدم الخروج أولا ، وللإشارة إلى حال المؤمنين المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، فهو تعريض بالمؤمنين فيه مقابلة بينهم ، فالمؤمنون يتحملون المشاق ، والمنافقون يتخاذلون .
وقد اتخذوا لعدم خروجهم تعلة أخرى ، وهي الحر الشديد{ وقالوا لا تنفروا في الحر} أي قالوا فيما بينهم مجمعين على هذه التعلة ، فقالوا فيما بينهم ، ووصلت إلى مسامع المؤمنين ليخذلوهم ، راجين أن يبثوا الفزع بينهم ، ويثبطوهم عن الجهاد ، وقد أمر الله تعالى نبيه أن يرد هذا القول ببيان أنهم يخيرون:جهاد في الحر ، أو لقاء جهنم ، ولا مناص لأحدهما ، فقال عز من قائل:{ قل نار جهنم أشد حرا} أي أنهم إن كانوا عقلاء يدركون أن هذا الحر الشديد موقوت ، ومربوط به العزة والكرامة ، وإرضاء الله ، وإن تركوه استقبلهم عذاب الأبد ، وهو نار أشد حرارة ، بل لا يوازيها حر الدنيا ، وإن الحر الموقوت بأجل الذي يترتب عليه خير عظيم ، أولى بالترك والإهمال من الحر الدائم بنار جهنم ، وذلك يكون لأهل الإدراك والموازنة بين تعب عاجل قليل ، ونار دائمة ، ولذا قال تعالى لو كانوا يفقهون الفقه الادراكالنافذ الى لباب الامورفلو كانو يفقهون الأمور لوازنوا بين ما يستقبلهم في تخلفهم ، واتقاء حر الدنيا ، وبين ما يلقونه بعد البعث ، وإن لآت لا ريب فيه ، وجواب( لو ) محذوف للإشارة إلى أنهم يرون هولا عظيما .