إنهم يختارون المتعة العاجلة القليلة ، ويختارونها ويتركون المتعة الدائمة ، ويقلبون العذاب الأليم ، ولذا قال تعالى:{ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون82} .
ويقول الزمخشري في قوله تعالى:{ قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} استمهال لهم ؛ لأن من تصون عن مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل ولبعضهم:
مسرة أحقاب تلقيت بعدهامساءة يوم أريها شبه الصاب
فكيف بأن أتلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب
والمعنى أن مسرة أحقاب يعقبها مساءة يوم يكون عسلها مرا كالصاب ، وهو شجر شديد المرارة ، فكيف يرضى العاقل بأن يلقى مسرة ساعة ، وراءها مساءة أحقاب ، أي أزمان .
وإن الآيتان متصلتان ،{ فليضحكوا قليلا} وكنى سبحانه وتعالى بالضحك عن السرور والفرح بالقعود عن الجهاد اتقاء للحرارة ، فإن الضحك يلازم السرور عادة ، وهو مظهر من مظاهره ، كما أن البكاء كناية عن الألم الدائم ؛ لأن البكاء ظاهرة من مظاهر الأم الشديد .
والفاء ففي قوله تعالى:{ فليضحكوا . . .} للإفصاح ؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر ؛ لأن المعنى العام ، إذا كانوا قد فروا من الغزوة اتقاء للحر في الوقت القصير ، وأهملوا ما يستقبلهم من حر جهنم الأشد الذي يكون جزاء التخلف ، فقد استبدلوا البكاء الطويل بضحك قليل .
والأمر للتهكم على أولئك الذين لا يفقهون ، وتهديد لهم ، وجاء التهكم بصيغة الأمر لما في معنى الأمر من الحتم واللزوم ، وأنه واقع لا محالة ، فهم بلا ريب سيكونون في سرور وقت قصير في الدنيا ، ثم يكون من بعده ألم طويل في الآخرة ، وإنه يدل على أن ذلك البكاء الطويل من نار جهنم حتى لازم ، وقوله تعالى:{ جزاء بما كانوا يكسبون} أي أن الله تعالى يجازيهم ذلك الجزاء ، ونصب جزاء على أنه مفعول لأجله .
أي أن ذلك البكاء الطويل يكون جزاء مقابلا للضحك القليل ، والرضا بالعذاب الطويل في مقابل الراحة القليلة ، أو اللذة العاجلة في مقابل المنفعة الدائمة الخالدة ، ويستحق ذلك الجزاء ، وقال تعالى:{ بما كانوا يكسبون} أي بسبب وفى مقابل ما كسبوه من راحة مؤقتة ، وترك للواجب ، والكسب ما يصير عادة للنفس ، وتستمر عليه في حياتها .
فهذا العذاب للمنافقين ليس لأجل هذا القعود فقط ، وإن كان إثما كبيرا فهو عقاب على ما كسبوه في أنفسهم ، وصار حالا مستمرة لهم كانوا يفعلون بموجبه دائما مع المؤمنين .
والتعبير ب( كان ) مع الفعل المضارع في قوله تعالى:{ بما كانوا يكسبون} يدل على استمرار هذا الذي كانوا يكسبونه ، وتجدده آنا بعد آن كلما كان أمر جامع ، وكلما بدا نفاقهم المستمر .