/م81
{ فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا} في هذا الأمر بقلة الضحك وكثرة البكاء وجوه:
أحدها:وهو المختار عندنا أن هذا هو الأجدر بهم ، بل الواجب عليهم بحسب ما تقتضيه حالهم ، وتستوجبه جريمتهم ، لو كانوا يفقهون ما فاتهم بالتخلف والخلاف من أجر ، وما سيحملون في الآخرة من وزر ، وما يلاقون في الدنيا من خزي وضر ، فهو خبر في صيغة أمر ، نكتته أنه أمر مبني على واجب مقرر .
ثانيها:أن هذا ما يكون من أمرهم في الدنيا ، فلن يطيب لهم فيها عيش بعد أن هتك الوحي أستارهم ، وكشف عوارهم ، وأمر الرسول والمؤمنون بمعاملتهم بما يقتضيه نفاقهم ، وعدم الاعتداد بما يظهرون من إسلامهم .
ثالثها:أن المراد بالضحك القليل ما سيكون منهم في الدنيا بعد الفضيحة ، وهو قليل بالنسبة إلى ما كان من ماضيهم مع المؤمنين ، وبالنسبة إلى حياتهم في هذه الدنيا ، وبالبكاء الكثير ما سيكون منهم في الآخرة ، وهو على كل حال إنذار مقابل لما ذكر من فرحهم بالتخلف مثبت أنه فرح عاقبته الحزن والكآبة ، والخيبة والندامة ، في الدنيا ويوم القيامة .
وفي معنى الآية قوله صلى الله عليه وسلم:( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ){[1619]} متفق عليه ؛ بل رواه الجماعة إلا أبو داود من حديث أنس ، ورواه الحاكم من حديث أبي هريرة بلفظ:( لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا:يظهر النفاق ، وترتفع الأمانة ، وتقبض الرحمة ، ويتهم الأمين ، ويؤتمن غير الأمين ، أناخ بكم الشُّرُف الجون ، الفتن كأمثال الليل المظلم ) ، الشرف بضمتين جمع شارف وهي الناقة العالية السن ، والجون السوداء ، أي الفتن الكبيرة المظلمة ، فهو تشبيه ، وروي بالقاف أي التي تأتي من قبل مشرق المدينة .
وإنما كان الأمر في الآية بمعنى الخبر لأنه إنذار بالجزاء لا تكليف ، وقد قيل في فائدة هذا التعبير عن الخبر بالإنشاء أنه يدل على أنه حتم لا يحتمل الصدق والكذب كما هو شأن الخبر لذاته في احتمالهما ، لأن الأصل في الأمر أن يكون للإيجاب وهو حتم .ويمكن أن يقال:إن الأمر بما ذكر يتضمن الإخبار بسببه ، فيكون مؤكداً للخبر ببناء الحكم عليه ، ويقابله التعبير عن الأمر بصيغة الخبر للتفاؤل بمضمونه كأنه وقع بالفعل .
وقال بعضهم:إن الأمر هنا للتكوين ، كقوله تعالى:{ اقرأ باسم ربك} [ العلق:1] ، أي كن قارئاً بعد إذ كنت أمياً باسم الله مبلغاً عنه ، ثم وصف ربه بما يدل على قدرته على جعل الأمي قارئا بأنه خلق كل شيء وخلق الإنسان من علق ، فجعله بعد ذلك سميعاً بصيراً وعلم الإنسان بالقلم ، علمه ما لم يعلم ، فكما فعل ذلك كله يجعلك قارئاً باسمه عز وجل .والمعنى على هذا:فليكونوا بقدرتنا وتقديرنا قليلي الضحك كثيري البكاء ، لأن سبب سرورهم وفرحهم بتخلفهم ونفاقهم قد زال ، وأعقبهم الفضيحة والنكال ، ويؤيد كونه تكويناً قدريا ، لا تكليفاً شرعياً ، جعله عقاباً جزائياً لهم على عملهم بقوله:{ جزاء بما كانوا يكسبون} فإن جزاء كل عمل من جنسه ، وكما يدين المرء يدان .