وبعد أن بين حالهم في فرار من الجهاد ، وإبداء المعاذير الكاذبة ، ورضاهم بأن يكونوا مع النساء والضعفاء وبأن يكونوا أشياء لا خير فيها ولا فائدة- ذكر بعد ذلك الذين يريدون الحياة الحق ، حياة الجهاد ومفتاح السعادة في الدنيا والآخرة ، وهم الرسول والذين اتبعوه ، فقال( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون88} .
الاستدراك هنا للانتقال ممن ارتضوا المنزل الهون إلى الذين لم يريدوا إلا العزة والكرامة والرفعة ، ومن امتلأت قلوبهم بحب الله تعالى ، فآثارهم على كل الوجود ، ورضوا بالمشقة وإن اشتدات ؛ مرضاة له سبحانه وتعالى ، فالاستدراك لبيان الرفعة التي وصل إليها المؤمنون في مقابل الذلة التي ارتضاها الآخرون ، كقوله تعالى:{. . .فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين89}( الأنعام ) ، وكقوله تعالى:{ فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون38} والمعنى فإن استرخى هؤلاء عن الجهاد ، ورضوا بالقعود مع الضعفاء والنساء فالرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، وقوله:{ لكن الرسول والذين آمنوا معه . . .} التعبير بالرسول في هذا المقام للإشارة إلى أن مقام الرسول يوجب الجهاد ؛ لأنه تبليغ للدعوة ؛ وحماية لها ، ودفع للذين يعاندونها ، وذكر بجوار مقام الرسالة من معه ، أي من آمنوا ، وصاروا معه في جهاده الذي حمل عبئه بحمله عبء الرسالة ، والرسول وما عطف عليه مبتدأ خبره ما جاء بعد ذلك ، وهو قوله تعالى:{ جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} أي قدموا النفس والنفيسوقدم سبحانه وتعالى الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس مع ان النفس أغلى وأعز ، والجود بها أقصى غاية الجود ، قدم المال بعد ذلك ؛ لأن الإنفاق في سبيل الله هو عدة الجهاد ابتداء ، وامتشاق السيوف هو نهايتها ، ولأن ذلك يشير إلى أنهم باعوا أنفسهم لله تعالى واطرحوا الدنيا اطراحا ، فالمال يطلب لغايات الدنيا ، وقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم فلا حياة لهم إلا مع الله .
قوله تعالى:{ وأولئك لهم الخيرات} الإشارات إلى الموصوفين بالأوصاف السابقة ، أي أولئك الذين كانوا مع الرسول ، ولزموه في جهاده ، ولم يتخلفوا عنه ، وأحبوا الله تعالى وبذلوا أموالهم وأنفسهم ، ولم يريدوا شيئا إلا إرضاء الله ، لهم الخيرات ، الخيرات جمع خير ، وعبر بالجمع للدلالة على كثرة ما يمنحهم الله من خير وتنوعه ، فخير في الرزق ، وخير في نيل المطالب ، وخير في النصرة ، وخير في العزة ، وخير في منع تحكم الأعداء ، وخير في رضا الله تعالى ، وخير في صلاح الولد ، وخير في الهداية . . . إلى آخره من الخيرات في الدنيا ، والخير الأكبر في الآخرة .
ثم قال:{ وأولئك هم المفلحون} أي المشار إليهم المتصفون بهذه الصفات هم الفائزون بنعيم الآخرة ، ورضوان الله تعالى والقرب منه ، وقد قصر الله تعالى الفلاح عليهم بتعريف الطرفين ، لأن تعريف الطرفين ؛ يفيد القصر ، وبضمير الفصل ، أي أن الفلاح لهم ، وليس لغيرهم .