والمفهوم من العاديات توسطن به جمعاً ،أي دخلن في وسط جمع ،أي خلق كثير من الكفار .
ونظير هذا المعنى قول بشر بن أبي حازم:
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب *** تحت العجاجة في الغبار الأقتم
وعلى القول الثاني الذي يقول: العاديات الإبل تحمل الحجيج ،فمعنى قوله:{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} ،أي صرن بسبب ذلك العدو ،وسط جمع .وهي المزدلفة ،وجمع اسم من أسماء المزدلفة .
ويدل لهذا المعنى قول صفية بنت عبد المطلب ،عمة النَّبي صلى الله عليه وسلم ،وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما:
فلا والعاديات مغبرات جمع *** بأيدها إذا سطع الغبار
وهذا الذي ساقه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ،قد جمع أقوال جميع المفسرين في هذه الآيات ،وقد سقته بحروفه لبيانه للمعنى كاملاً .
ولكن مما قدمه رحمة الله تعالى علينا وعليه أن من أنواع البيان في الأضواء أنه إذا اختلف علماء التفسير في معنى وفي الآية قرينة ترد أحد القولين أو تؤيد أحدهما فإنه يشير إليه .
وقد وجدت اختلاف المفسرين في هذه الآيات في نقطة أساسية من هذه الآيات مع اتفاقهم في الألفاظ ومعانيها ،والأسلوب وتراكيبه .
ونقطة الخلاف هي معنى الجمع الذي توسطن به ،أهو المزدلفة ؛لأن من أسمائها جمع كما في الحديث:"وقفت ها هنا ،وجمع كلها موقف ".وهذا مروي عن علي رضي الله عنه ،في نقاش بينه وبين ابن عباس .ساقه ابن جرير .
أم بالجمع جمع الجيش في القتال على ما تقدم ،وهو قول ابن عباس وغيره .حكاه ابن جرير وغيره .
وقد وجدنا قرائن عديدة في الآية تمنع من إرادة المزدلفة بمعنى جمع ،وهي كالآتي:
أولا: وصف الخيل أو الإبل على حد سواء بالعاديات ،حتى حد الضبح ،ووري النار بالحوافر وبالحصا ؛لأنها أوصاف تدل على الجري السريع .
ومعلوم أن الإفاضة من عرفات ثم من المزدلفة لا تحتمل هذا العدو ،وليس هو فيها بمحمود ؛لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي"السكينة السكينة "،فلو وجد لما كان موضع تعظيم وتفخيم .
ثانياً: أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب ،كما قاله بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا *** وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أي: لشدة الكر والفر .
ثالثاً: قوله تعالى:{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً 3 فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً 4 فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} ،جاء مرتباً بالفاء ،وهي تدل على الترتيب والتعقيب .
وقد تقدم المغيرات صبحاً ،وبعدها فوسطن به جمعاً .
وجمع هي المزدلفة ،وإنما يؤتى إليها ليلاً ،فكيف يغرن صبحاً ،ويتوطن المزدلفة ليلاً ؟
وعلى ما حكاه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ،أنهم يغيرون صبحاً من المزدلفة إلى منى ،تكون تلك الإغارة صبحاً بعد التوسط بجمع ،والسياق يؤخرها عن الإغارة ولم يقدمها عليها .
فتبين بذلك أن إرادة المزدلفة غير متأتية في هذا السياق .
ويبقى القول الآخر وهو الأصح ،واللَّه تعالى أعلم .
ولو رجعنا إلى نظرية ترابط السور لكان فيها ترجيح لهذا المعنى ،وهو أنه في السورة السابقة ذكرت الزلزلة وصدور الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم .
وهنا حث على أفضل الأعمال التي تورث الحياة الأبدية والسعادة الدائمة في صورة مماثلة ،وهي عدوهم أشتاتاً في سبيل الله لتحصيل ذاك العمل الذي يحبون رؤيته في ذلك الوقت ،وهو نصرة دين الله ،أو الشهادة في سبيل اللَّه ،والعلم عند الله تعالى .