وقوله:{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} .
لفظ الإنسان وإن كان مفرداً ،فإن ( أل ) فيه جعلته للجنس .
وقد بينه الشيخ -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في دفع إيهام الاضطراب ،وتقدم التنبيه عليه مراراً ،فهو شامل للمسلم والكافر ،إلا من استثنى الله تعالى .
وقيل: خاص بالكافر ،والأول أرجح للعموم .
و{إن الإنسان لفي خسر} ،جواب القسم ،والخسر: قيل: هو الغبن ،وقيل: النقص ،وقيل: العقوبة ،وقيل: الهلكة ،والكل متقارب .
وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران ،النقص من رأس المال ،ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء ؛بل أطلق ليعم ،وجاء بحرف الظرفية ،ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ،وهو محيط به من كل جهة .
ولو نظرنا إلى أمرين وهما المستثنى والسورة التي قبلها ،لاتّضح هذا العموم ؛لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور: عدم الإيمان وهو الكفر ،وعدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد ،وعدم التواصي بالحق وهو انعدام التواصي كلية ،أو التواصي بالباطل ،وعدم التواصي بالصبر ،وهو إما انعدام التواصي كلية ،أو الهلع والجزع .
والسورة التي قبلها تلهي الإنسان بالتكاثر في المال والولد ،بغية الغنى والتكثر فيه ،وضده ضياع المال والولد ،وهو الخسران .
فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر ،وفي الإسلام وهو ترك العمل ،وإن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح ،والتلهي في الباطل وترك الحق ،وفي الهلع والفزع .
ومن ثم ترك الأمر والنهي بما فيه مصلحة العبد وفلاحه وصلاح دينه ودنياه ،وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه نجمله في الآتي:
أما الخسران بالكفر فكما في قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وقوله:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ اللَّهِ} ،أي لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء ،وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم ،وحظهم في الآخرة .
وأما الخسران بترك العمل ،فكما في قوله تعالى:{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} ،لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} ،
ومثله:{وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} ؛لأنه سيكون من حزب الشيطان{أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} ،أي بطاعتهم إياه في معصية اللَّه .
وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال ،والحق هو الإسلام بكامله ،وقد قال تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع ،فكما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
تحقيق المناط في حقيقة خسران الإنسان
اتفقوا على أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره ،كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا ،فهي له كالسوق ،فإن أعمله في خير ربح ،وإن أعمله في شر خسر ،ويدل لهذا المعنى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ} الآية ،وقوله:{هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية .
وفي الحديث عند مسلم:"الطهور شطر الإيمان ".
وفي آخره"كل الناس يغدو ،فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها "،مما يؤكد أن رأس مال الإنسان عمره .
ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} .
وعلى هذا قالوا: إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ،وهدى كل إنسان النجدين ،وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ،ومنزلة في النار ،فمن آمن وعمل صالحاً كان مآله إلى منزلة الجنة ،وسلم من منزلة النار ،ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار ،وترك منزلته في الجنة ،كما جاء في حديث القبر"أول ما يدخل في قبره إن كان مؤمناً يفتح له باب إلى النار ،ويقال له: ذاك مقعدك من النار لو لم تؤمن ثم يقفل عنه ،ويفتح له باب إلى الجنة ويقال له: هذا منزلك يوم تقوم الساعة ،فيقول: رب ،أقم الساعة ".
وإن كان كافراً كان على العكس تماماً ،فإذا دخل أهل الجنة الجنة ،وأهل النار النار ،فيأخذ كل منزلته فيها ،وتبقى منازل أهل النار في الجنة خالية ،فيتوارثها أهل الجنة ،وتبقى منازل أهل الجنة في النار خالية ،فتوزع على أهل النار ،وهنا يظهر الخسران المبين ؛لأن من ترك منزلة في الجنة وذهب إلى منزلة في النار فهو بلا شك خاسر ،وإذا ترك منزلته في الجنة لغيره وأخذ هو بدلاً عنها منزلة غيره في النار ،كان هو الخسران المبين ،عياذاً باللَّه .
أما في غير الكافر وفي عموم المسلمين ،فإن الخسران في التفريط بحيث لو دخل الجنة ولم ينل أعلى الدرجات يُحسّ بالخسران في الوقت الذي فرط فيه ،ولم ينافس فعل الخير ،لينال أعلى الدرجات .
فهذه السورة فعلاً دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح ،ودرجات الجنة رفيعة ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد ،فإن أمامه مجال للكسب والربح ،نسأل الله التوفيق والفلاح .
وقد قالوا: لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزيناً ،فإن كان مسيئاً فعلى إساءته ،وإن كان محسناً فلتقصيره ،وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} .
فالخوف من المستقبل أمامهم ،والحزن على الماضي خلفهم ،واللَّه تعالى أعلم .
ويبين خطر هذه المسألة: أن الإنسان إذا كان في آخر عمره ،وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة ،وأراد زيادة يوم فيها يتزوّد منها ،أو ساعة وجيزة يستدرك بعضاً مما فاته ،لم يستطع لذلك سبيلاً ،فيشعر بالأسى والحزن على الأيام والليالي والشهور والسنين التي ضاعت عليه في غير ما كسب ولا فائدة ،كان من الممكن أن تكون مربحة له ،وفي الحديث الصحيح:"نعمتان مغبون فيهما الإنسان: الصحة والفراغ ".أي أنهما يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتملة ،فيفوتان عليه بدون عوض يذكر ،ثم يندم ،ولات حين مندم .
كما قيل في ذلك:
بدلت جمة برأس أزعرا *** وبالثنايا البيض الدر دررا
* كما اشترى المسلم إذ تنصرا *
تنبيه
في سورة التكاثر تقبيح التلهي بالتكاثر بالمال والولد ونحوه ،ثم الإشعار بأن سببه الجهل ؛لأنهم لو كانوا يعلمون علم اليقين لما ألهاهم ذلك حتى باغتهم الموت .
وهنا إشعار أيضاً بأن سبب هذا الخسران الذي يقع فيه الإنسان هو الجهل الذي يجر إلى الكفر والتمادي في الباطل ،ويساعد على هذا قسوة القلب ،وطول الأمل .كما قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} .
تنبيه آخر
قوله تعالى:{إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ،نص على الإنسان على ما تقدم ،وقد جاءت آية أخرى تدل على أن الجن كالإنس في قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِّن قَبْلِهِْ مِّنْ الْجِنِّ و الإِنْسِ إنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} .
وتقدم بيان تكليف الجن بالدعوة ،واستجابتهم لها ،والدعوة إليها .