قوله تعالى:{كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} .
في المراد بالمقتسمين أقوال للعلماء معروفة ،وكل واحد منها يشهد له قرآن ؛إلا أن في الآية الكريمة قرينة تضعف بعض تلك الأقوال:
الأولأن المراد بالمقتسمين: الذين يحلفون على تكذيب الرسل ومخالفتهم ،وعلى هذا القول فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين ،وهو بمعنى التقاسم .
ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح:{قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [ النمل:49] الآية .أي نقتلهم ليلاً ،وقوله:{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ} [ النحل:38] ،وقوله:{أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} [ إبراهيم:44] ،وقوله:{أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [ الأعراف:49] إلى غير ذلك من الآيات .فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه ؛فسموا مقتسمين .
القول الثانيأن المراد بالمقتسمين: اليهود والنصارى .وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها .
ويدل لهذا القول قوله تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [ البقرة:23] الآية ،وقوله:{وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [ النساء:150] الآية .
القول الثالثأن المراد بالمقتسمين: جماعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة ،فقال بعضهم: هو شعر .وقال بعضهم: هو سحر .وقال بعضهم: كهانة .وقال بعضهم: أساطير الأولين .وقال بعضهم: اختلفه محمد ،صلى الله عليه وسلم .
وهذا القول تدل له الآيات الدالة على أنهم قالوا في القرآن تلك الأقوال المفتراة الكاذبة ،كقوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [ الحاقة:41-42] ،وقوله:{فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [ المدثر:24] ،وقوله:{إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} [ ص:7] ،وقوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [ النحل:24] ،وقوله:{وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فهي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [ الفرقان:5] إلى غير ذلك من الآيات .
والقرينة في الآية الكريمة تؤيد هذا القول الثالث ولا تنافي الثاني بخلاف الأول .لأن قوله{الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ} [ الحجر:91] أظهر في القول الثالث ،لجعلهم له أعضاء متفرقة بحسب اختلاف أقوالهم الكاذبة ،كقولهم: شعر ،سحر ،كهانة الخ .
وعلى أنهم أهل الكتابفالمراد بالقرآن كتبهم التي جزؤوها فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ،أو القرآن لأنهم آمنوا بما وافق هواههم منه وكفروا بغيره .
وقوله{عِضِينَ} جمع عضة ،وهي العضو من الشيء ،أي جعلوه أعضاء متفرقة .واللام المحذوفة أصلها واو .قال بعض العلماء: اللام المحذوفة أصلها هاء ،وعليه فأصل العضة عضهه .والعضه السحر ؛فعلى هذا القولفالمعنى جعلوا القرآن سحراً ؛كقوله:{إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [ المدثر:24] ،وقوله:{قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [ القصص:48] إلى غير ذلك من الآيات .
والعرب تسمي الساحر عاضها ،والساحرة عاضهة ؛والسحر عضها .ويقال: إن ذلك لغة قريش ؛ومنه قول الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا ***ت في عقد العاضه المعضه
تنبيه
فإن قيل: بم تتعلق الكاف في قوله{كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [ الحجر: 90] ؟
فالجوابما ذكره الزمخشري في كشافه قال: فإن قلت بم تعلق قوله{كَمَآ أَنْزَلْنَا} قلت: فيه وجهان: أحدهماأن يتعلق بقوله:{وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ} [ الحجر:87] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ،وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ،حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم: بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ،وبعضه باطل مخالف لهما ،فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه .وقيل: كانوا يستهزؤون به فيقول بعضهم: «سورة البقرة » لي ،ويقول الآخر: «سورة آل عمران » لي ( إلى أن قال ) الوجه الثانيأن يتعلق بقوله:{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [ الحجر:89] أي وأنذر قريشاً مثل ما أنزلناه من العذاب على المقتسمين ( يعني اليهود ) وهو ما جرى على قريظة والنضير .جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز ،لأنه إخبار بما سيكون ،وقد كان انتهى محل الغرض من كلام صاحب الكشاف .
ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في «البحر المحيط » ثم قال أبو حيان:
أما الوجه الأول وهو تعلق{كَمَا} ب{ءاتَيْنَاكَ} فذكره أبو البقاء على تقدير ،وهو أن يكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره: آتيناك سبعاً من المثاني إيتاء كما أنزلنا ،أو إنزالاً كما أنزلنا .لأن «آتيناك » بمعنى أنزلنا عليك .