قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} .
نزلت هذه الآية الكريمة من سورة النحل بالمدينة ،في تمثيل المشركين بحمزة ومن قتل معه يوم أحد .فقال المسلمون: لئن أظفرنا الله بهم لنمثلن بهم ؛فنزلت الآية الكريمة ،فصبروا لقوله تعالى:{لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ،مع أن سورة النحل مكية ،إلا هذه الآيات الثلاث من آخرها .والآية فيها جواز الانتقام والإرشاد إلى أفضلية العفو .وقد ذكر تعالى هذا المعنى في القرآن ؛كقوله:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [ الشورى: 40] الآية ،وقوله:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [ المائدة: 45] الآية ،وقوله:{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} [ الشورى: 41] إلى قوله:{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ} [ الشورى:43] ،وقوله:{لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} ،إلى قوله:{أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [ النساء: 149] كما قدمنا .
مسائل
بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى:يؤخذ من هذه الآية حكم مسألة الظفر ،وهي أنك إن ظلمك إنسان: بأن أخذ شيئاً من مالك بغير الوجه الشرعي ولم يمكن لك إثباته ،وقدرت له على مثل ما ظلمك به على وجه تأمن معه الفضيحة والعقوبة ؛فهل لك أن تأخذ قدر حقك أو لا ؟
أصح القولين ،وأجراهما على ظواهر النصوص وعلى القياس: أن لك أن تأخذ قدر حقك من غير زيادة .لقوله تعالى في هذه الآية:{فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية ،وقوله:{فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [ البقرة: 194] .
وممن قال بهذا القول: ابن سيرين وإبراهيم النخعي ،وسفيان ومجاهد ،وغيرهم .
وقالت طائفة من العلماء منهم مالك: لا يجوز ذلك ؛وعليه درج خليل بن إسحاق المالكي في مختصره بقوله في الوديعة: وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها .
واحتج من قال بهذا القول بحديث: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك .ولا تخن من خانك » اه .وهذا الحديث على فرض صحته لا ينهض الاستدلال به ؛لأن من أخذ قدر حقه ولم يزد عليه لم يخن من خانه ،وإنما أنصف نفسه ممن ظلمه .
المسألة الثانية:أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة المماثلة في القصاص .فمن قتل بحديدة قُتل بها ،ومن قتل بحجر قُتل به .ويؤيده «رضه صلى الله عليه وسلم رأس يهودي بين حجرين قصاصاً لجاريةفعل بها مثل ذلك » .
وهذا قول أكثر أهل العلم خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه ،زاعماً أن القتل بغير المحدد شبه عمد ،لا عمد صريح حتى يجب فيه القصاص .وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح في سورة الإسراء .
المسألة الثالثة: أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة اسم العقوبة على الجناية الأولى في قوله:{بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ،والجناية الأولى ليست عقوبة ؛لأن القرآن بلسان عربي مبين .ومن أساليب اللغة العربية المشاكلة بين الألفاظ ؛فيؤدي لفظ بغير معناه الموضوع له مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام .كقول الشاعر:
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه ***قلت اطبخوا لي جبةً وقميصا
أي: خيطوا لي .وقال بعض العلماء: ومنه قول جرير:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها*** فمن لحاجة هذا الأرمل الذَّكر
بناء على القول بأن الأرامل لا تطلق في اللغة إلا على الإناث .
ونظير الآية الكريمة في إطلاق إحدى العقوبتين على ابتداء الفعل مشاكلة للفظ الآخرقوله تعالى:{ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} [ الحج: 60] الآية ،ونحوه أيضاً .
قوله:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [ الشورى: 40] ،مع أن القصاص ليس بسيئة وقوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ} [ البقرة: 194] الآية ؛لأن القصاص من المعتدي أيضاً ليس باعتداء كما هو ظاهر ،وإنما أدى بغير لفظه للمشاكلة بين اللفظين .