قوله تعالى:{وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا ربّي نَسْفاً} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنهم يسألونه عن الجبال ،وأمره أن يقول لهم: إن ربه ينسفها نسفاً ،وذلك بأن يقلعها من أصولها ،ثم يجعلها كالرمل المتمايل الذي يعيل ،وكالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا .
واعلم أنه جل وعلا بين الأحوال التي تصير إليها الجبال يوم القيامة في آيات من كتابه .فبين أنه ينزعها من أماكنها .ويحملها فيدكها دكاً ؛وذلك في قوله:{فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَة 13 ٌوَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً 14} .
ثم بين أنه يسيرها في الهواء بين السماء والأرض ؛وذلك في قوله{وَيَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ فَفَزِعَ مَن في السَّماوَاتِ وَمَن في الأرض إِلاَّ مَن شاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ 87 وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الذي أَتْقَنَ كُلَّ شيء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ 88} ،وقوله:{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} الآية ،وقوله:{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ} ،وقوله تعالى:{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً 20} ،وقوله تعالى:{يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً 9 وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً 10} .
ثم بين أنه يفتنها ويدقها كقوله{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً 5} أي فتت حتى صارت كالبسيسة ،وهي دقيق ملتوت بسمن أو نحوه على القول بذلك ،وقوله:{وَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً 14} .
ثم بين أنه يصيرها كالرمل المتهايل ،وكالعن المنفوش ؟وذلك في قوله:{يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً 14} ،وقوله تعالى:{يَوْمَ تَكُونُ السماء كَالْمُهْلِ 8 وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ 9} في «المعارج ،والقارعة » .والعهن: الصوف المصبوغ ؛ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
كأن فتات العهن في كل منزل *** نزلن به حب الفنا لم يحطم
ثم بين أنها تصير كالهباء المنبث في قوله:{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً 5 فَكَانَتْ هباء مُّنبَثّاً 6} ثم بين أنها تصير سراباً ،وذلك في قوله:{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً 20} وقد بين في موضع آخر: أن السراب لا شيء ؛وذلك قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا جاءه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} وبين أنه ينسفها نسفاً في قوله هنا:{وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا ربّي نَسْفاً 105} .
تنبيه
جرت العادة في القرآن: أن الله إذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{يسألونك} قال له{قُلْ} بغير فاء .كقوله:{وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ} الآية ،وقوله تعالى:{يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ} الآية ،وقوله:{يَسْألُونَكَ ماذَا يُنفِقُونَ قُلْ ما أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ} الآية ،وقوله{يَسْأَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} الآية ،وقوله:{يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إلى غير ذلك من الآيات ،أما في آية «طه » هذه فقال فيها:{فَقُلْ يَنسِفُهَا} بالفاء .وقد أجاب القرطبي رحمه الله عن هذا في تفسير هذه الآية بما نصه:{وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} أي عن حال الجبال يوم القيامة ،فقل ؛جاء هذا بفاء ،وكل سؤال في القرآن «قل » بغير فاء إلا هذا ؛لأن المعنى: إن سألوك عن الجبال فقل ،فتضمن الكلام معنى الشرط ،وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال .وتلك أسئلة تقدمت ،سألوا عنها النَّبي صلى الله عليه وسلم فجاء الجواب عقب السؤال ؛فلذلك كان بغير فاء .وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد فتفهمهانتهى منه .وما ذكره يحتاج إلى دليل ،والعلم عند الله تعالى .