وقوله في آية «طه » هذه:{كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ} أي من المن والسلوى ،والأمر فيه للإباحة والامتنان .
وقد ذكر ذلك أيضاً في غير هذا الموضع ،كقوله في «البقرة »{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ وَما ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 57} ،وقوله في «الأعراف »:{وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ وَما ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 160} ،وقوله:{كُلُواْ} في هذه الآيات مقول قول محذوف ،أي وقلنا لهم كلوا ،والضمير المجرور في قوله:{وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} راجع إلى الموصول الذي هو «ما » أي كلوا من طيبات الذي رزقناكم{وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} أي فيما رزقناكم .ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم ،وهو أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به ،ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه ،وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي ،أو يستعينوا به على المعصية ،أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه ،ونحو ذلك .
وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا ،لأن الفاء في قوله{فَيَحِلَّ} سببية ،والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ،لأنه بعد النهي وهو طلب محض ،كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله:
وبعد فا جواب نفي أو طلب *** محضين أن وسترها حتم نصب
وقرأ هذا الحرف الكسائي{فَيَحِلَّ} بضم الحاء{وَمَن يَحْلِلْ} بضم اللام .والباقون قرؤوا{يَحِلَّ} بكسر الحاء و{يَحْلِلْ} بكسر اللام .وعلى قراءة الكسائي{فَيَحِلَّ} بالضم أي ينزل بكم غضبي .وعلى قراءة الجمهور فهو من حل يحل بالكسر: إذا وجب ،ومنه حل دينه إذا وجب أداؤه .ومنه{ثُمَّ محلها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ 33} .وقوله:{فَقَدْ هَوَى 81} أي هلك وصار إلى الهاوية ،وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك ،ومنه قول الشاعر:
هوى من رأس مرقبة *** ففتت تحتها كبده
ويقولون: هوت أمه ،أي سقط سقوطاً لا نهوض بعده .ومنه قول كعب بن سعد الغنوي:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا *** وماذا يرد الليل حين يؤوب
ونحو هذا هو أحد التفسيرات في قوله تعالى:{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ 9} وعن شفي بن مانع الأصبحي قال: إن في جهنم جبلاً يدعى صعوداً يطلع فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يرقاه ؛قال الله تعالى:{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً 17} وإن في جهنم قصراً يقال له هوى ،يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفاً قبل أن يبلغ أصله ،قال الله تعالى:{وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى 81} قال القرطبي وابن كثير ،والله تعالى أعلم .
واعلم أن الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته ،تظهر آثارها في المغضوب عليهم .نعوذ بالله من غضبه جل وعلا .ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه ،ولا نكذب بشيء من ذلك .مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة «الأعراف » وقرأ حمزة والكسائي في هذه الآية{قَدْ أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم} بتاء المتكلم فيهما .وقرأه الباقون{وَوَاعَدْنَاكُمْ وأنجيناكم} بالنون الدالة على العظمة ،فصيغة الجمع في قراءة الجمهور للتعظيم .وقرأ أبو عمرو{وَوَعَدْنَاكُمْ} بلا ألف بعد الواو الثانية بصيغة الفعل المجرد ،من الوعد لا من المواعدة مع نون التعظيم .