قوله تعالى:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} .
أظهر الأقوال في الآية الكريمة ،أن المراد بالقول ،ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ،من وحي الكتاب والسنة ،ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ} .وقوله تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ} [ الطارق: 13-14] .وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي يقدمون الأحسن ،الذي هو أشد حسناً ،على الأحسن الذي هو دونه في الحسن ،ويقدمون الأحسن مطلقاً على الحسن .ويدل لهذا آيات من كتاب الله .
أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع .ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي ،فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى:{وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [ الزمر: 55] وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} [ الأعراف: 145] .
وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن ،فقد دلت عليه آيات من كتابه .
واعلم أولاً أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب ،وأن المندوب أحسن من مطلق الحسن ،فإذا سمعوا مثلاً قوله تعالى:{وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ الحج: 77] قدموا فعل الخير الواجب ،على فعل الخير المندوب ،وقدموا هذا الأخير ،على مطلق الحسن الذي هو الجائز ،ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب ،لا على مطلق الحسن ،كما قال تعالى:{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ النحل: 97] وقال تعالى{وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ الزمر: 35] كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل ،في الكلام على قوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ النحل: 97] ،وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن ،كما قال صاحب المراقي:
ما ربنا لم ينه عنه حسن *** وغيره القبيح والمستهجن
ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [ النحل: 126] فالأمر في قوله:{فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} للجواز ،والله لا يأمر إلا بحسن .فدل ذلك على أن الانتقام حسن ،ولكن الله بين أن العفو والصبر ،خير منه وأحسن في قوله:{وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ،كقوله تعالى في إباحة الانتقام ،{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} [ الشورى: 41] ،مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه ،في قوله بعده:{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [ الشورى: 43] ،وكقوله في جواز الانتقام{لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [ النساء: 148] مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه ،وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده:{إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [ النساء: 149] .وكقوله جل وعلا مثنياً على من تصدق ،فأبدى صدقته{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هي} [ البقرة: 271] ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء ،خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد ،الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم ،في قوله{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هي وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [ البقرة: 271] .
وكقوله في نصف الصداق اللازم ،للزوجة بالطلاق ،قبل الدخول ،فنصف ما فرضتم ،ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن ،لأن الله شرعه في كتابه في قوله{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [ البقرة: 237] مع أنه رغب كل واحد منهما ،أن يعفو للآخر عن نصفه ،وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعده{وَأَن تَعْفُواْأَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [ البقرة: 237] .
وقد قال تعالى:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [ الشورى: 40] ثم أرشد إلى الأحسن بقوله{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [ الشورى: 40] وقال تعالى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [ المائدة: 45] ثم أرشد إلى الأحسن ،في قوله:{فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [ المائدة: 45] .
واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالاً غير الذي اخترنا .
منها ما روي عن ابن عباس ،في معنى{فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [ الزمر: 18] قال «هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن ،وينكف عن القبيح ،فلا يتحدث به » .
وقيل يستمعون القرآن وغيره ،فيتبعون القرآن .
وقيل: إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله ،وبعض من يقول بهذا يقول: إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ،كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي ،وأبي ذر الغفاري ،وسلمان الفارسي ،إلى غير ذلك من الأقوال .