والدليل على ذلك ،أن قوله بعد:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} خطاب له صلى الله عليه وسلم بلا نزاع ،فادعاء أن الضمير في قيله لعيسى لا دليل عليه ولا وجه له .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة ،من شكواه صلى الله عليه وسلم ،إلى ربه عدم إيمان قومه ،جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً} [ الفرقان: 30] ،وذكر مثله عن موسى في قوله تعالى في الدخان:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} [ الدخان: 22] ،وعن نوح قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً} [ نوح: 5 -6] إلى آخر الآيات .
قوله تعالى:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
قرأ هذا الحرف ابن كثير ،وأبو عمرو ،وعاصم ،وحمزة ،والكسائي: ( فسوف يعلمون ) بياء الغيبة ،وقرأ نافع وابن عامر ( فسوف تعلمون ) بتاء الخطاب .
وهذه الآية الكريمة تضمنت ،ثلاثة أمور:
الأول: أمره صلى الله عليه وسلم بالصفح عن الكفار .
والثاني: أن يقول لهم سلام .
والثالث: تهديد الكفار ،بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار .
وهذه الأمور الثلاثة جاءت موضحة في غير هذا الموضع:
كقوله تعالى في الأول{وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [ الحجر: 85] ،وقوله تعالى{وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [ الأحزاب: 48] .
والصفح الإعراض عن المؤاخذة بالذنب .
قال بعضهم: وهو أبلغ من العفو .
قالوا: لأن الصفح أصله مشتق من صفحة العنق ،فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضاً عن عتابه فما فوقه .
وأما الأمر الثاني ،فقد بين تعالى أنه هو شأن عباده الطيبين .
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم سيدهم كما قال تعالى{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [ الفرقان: 63] ،وقال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ} [ القصص: 55] .وقال عن إبراهيم إنه قال له أبوه:{لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [ مريم: 46] قال له{سَلَامٌ عَلَيْكَ} [ مريم: 47] .
ومعنى السلام في الآيات المذكورة ،إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم ،ومن مجازاتهم لهم بالسوء ،أي سلمتم منا لا نسافهكم ،ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا .
وأما الأمر الثالث الذي هو تهديد الكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة قد جاء موضحاً في آيات كتاب الله كقوله تعالى:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} [ ص: 88] وقوله تعالى:{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [ الأنعام: 67] وقوله:{كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [ النبأ: 4 -5] .وقوله تعالى:{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [ التكاثر: 3 -4] .وقوله تعالى:{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [ التكاثر: 6 -7] إلى غير ذلك من الآيات .
وكثير من أهل العلم يقول: إن قوله تعالى:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} وما في معناه منسوخ بآيات السيف ،وجماعات من المحققين يقولون هو ليس بمنسوخ .
والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال ،والصفح عن الجهلة ،والإعراض عنهم ،وصف كريم ،وأدب سماوي ،لا يتعارض مع ذلك ،والعلم عند الله تعالى .