معنى قوله: يفرق ،أي يفصل ويبين ،ويكتب في الليلة المباركة ،التي هي ليلة القدر ،كل أمر حكيم ،أي ذي حكمة بالغة لأن كل ما يفعله الله ،مشتمل على أنواع الحكم الباهرة:
وقال بعضهم: حكيم ،أي محكم ،ولا تغيير فيه ،ولا تبديل .
وكلا الأمرين حق لأن ما سبق في علم الله ،لا يتغير ولا يتبدل ،ولأن جميع أفعاله في غاية الحكمة .
وهي في الاصطلاح وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها .
وإيضاح معنى الآية أن الله تبارك وتعالى في كل ليلة قدر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم ،بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة ،إلى ليلة القدر من السنة الجديدة .
فتبين في ذلك الآجال والأرزاق والفقر والغنى ،والخصب والجدب والصحة والمرض ،والحروب والزلازل ،وجميع ما يقع في تلك السنة كائناً ما كان .
قال الزمخشري في الكشاف: ومعنى يفرق: يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم ،وجميع أمورهم فيها ،إلى الأخرى القابلة إلى أن قال: فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ،ونسخة الحروب إلى جبرائيل ،وكذلك الزلازل ،والصواعق والخسف ،ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ،ونسخة المصائب إلى ملك الموت ا ه محل الغرض منه بلفظه .
ومرادنا بيان معنى الآية ،لا التزام صحة دفع النسخ المذكورة للملائكة المذكورين ،لأنا لم نعلم له مستنداً .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ،يدل أيضاً على أن الليلة المباركة هي ليلة القدر فهو بيان قرآني آخر .
وإيضاح ذلك أن معنى قوله{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [ القدر: 1] أي في ليلة التقدير لجميع أمور السنة ،من رزق وموت ،وحياة وولادة ومرض ،وصحة وخصب وجدب ،وغير ذلك من جميع أمور السنة .
قال بعضهم: حتى إن الرجل لينكح ويتصرف في أموره ويولد له ،وقد خرج اسمه في الموتى في تلك السنة .
وعلى هذا التفسير الصحيح لليلة القدر ،فالتقدير المذكور هو بعينه المراد بقوله{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [ الدخان: 4] .
وقد قدمنا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى:{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [ الأنبياء: 87] أن قدر بفتح الدال مخففاً يقدر ويقدر بالكسر والضم كيضرب وينصر قدراً بمعنى قدر تقديراً ،وأن ثعلباً أنشد لذلك قول الشاعر:
فليست عشيات الحمى برواجع *** لنا أبداً ما أروق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ***تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
وبينا هناك ،أن ذلك هو معنى ليلة القدر ،لأن الله يقدر فيها وقائع السنة .
وبينا أن ذلك هو معنى قوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وأوضحنا هناك أن القدر بفتح الدال والقدر بسكونها هما ما يقدره الله من قضائه: ومنه قول هدبة بن الخشرم:
ألا يا لقومي للنوائب والقدر ***وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
واعلم أن قول من قال: إنما سميت ليلة القدر لعظمها وشرفها على غيرها من الليالي من قولهم: فلان ذو قدر أي ذو شرف ومكانة رفيعة لا ينافي القول الأول لاتصافها بالأمرين معاً ،وصحة وصفها بكل منهما كما أوضحنا مثله مراراً .
واختلف العلماء في إعراب قوله{أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ} ،قال بعضهم: هو مصدر منكر في موضع الحال ،أي أنزلناه في حال كوننا آمرين به .
وممن قال بهذا الأخفش .
وقال بعضهم: هو ما ناب عن المطلق من قوله ( أنزلناه ) وجعل ( أمراً ) بمعنى: إنزالاً .
وممن قال به المبرد .
وقال بعضهم هو ما ناب عن المطلق من يفرق ،فجعل ( أمراً ) بمعنى فرقاً أو فرق بمعنى أمراً .
وممن قال بهذا الفراء والزجاج .
وقال بعضهم هو حال من ( أمر ) أي ( يفرق فيها بين كل أمر حكيم ) .
في حال كونه أمراً من عندنا ،وهذا الوجه جيد ظاهر ،وإنما ساغ إتيان الحال من النكرة وهي متأخرة عنها لأن النكرة التي هي ( أمر ) وصفت بقوله ( حكيم ) كما لا يخفى .
وقال بعضهم ( أمراً ) مفعول به لقوله ( منذرين ) وقيل غير ذلك .
واختار الزمخشري: أنه منصوب بالاختصاص ،فقال: جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم ثم زاده جزالة وأكسبه فخامة ،بأن قال: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ،كائناً من لدنا ،وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا وهذا الوجه أيضاً ممكن ،والعلم عند الله تعالى .