قوله تعالى:{مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
قوله تعالى:{مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الشواهد العربية في سورة إبراهيم في الكلام على قوله تعالى:{وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} [ إبراهيم: 15 -16] .وبينا هناك أن أصح الوجهين أن وراء بمعنى أمام .
فمعنى من ورائه جهنم أي أمامه جهنم يصلاها يوم القيامة كما قال تعالى:{وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [ الكهف: 79] أي أمامهم ملك .
وذكرنا هناك الشواهد العربية على إطلاق وراء بمعنى أمام ،وبينا أن هذا هو التحقيق في معنى الآية وكذلك آية الجاثية هذه ،فقوله تعالى{مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ} أي أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} .
أوضح فيه أن ما كسبه الكفار في دار الدنيا من الأموال والأولاد لا يغني عنهم شيئاً يوم القيامة ،أي لا ينفعهم بشيء فلا يجلب لهم بسببه نفع ولا يدفع عنهم بسببه ضر ،وإنما اتخذوه من الأولياء في دار الدنيا من دون الله ،كالمعبودات التي كانوا يعبدونها ،ويزعمون أنها شركاء لله لا ينفعهم يوم القيامة أيضاً بشيء .
وهاتان المسألتان اللتان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ،قد أوضحهما الله في آيات كثيرة من كتابه .
أما الأولى منهما: وهي كونهم لا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً فقد أوضحها في آيات كثيرة كقوله تعالى:{تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [ المسد: 1 -2] وقوله تعالى:{وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [ الليل: 11] وقوله تعالى:{الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [ الهمزة: 2 -4] .وقوله تعالى:{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [ الزمر: 50] .وقوله تعالى:{يا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ} [ الحاقة: 27 -28] الآية .وقوله تعالى:{قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} الأعراف: 48] .وقوله تعالى عن إبراهيم:{وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُون َيَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} [ الشعراء: 87 -88] الآية .وقوله تعالى:{وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} [ سبأ: 37] الآية .وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [ آل عمران: 10] .وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ آل عمران: 116] .وقوله تعالى في المجادلة{اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً} [ المجادلة: 16 -17] الآية .
والآيات بمثل هذا كثيرة جداً ،وقد قدمنا كثيراً منها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
وأما الثانية منهما ،وهي كونهم لا تنفعهم المعبودات ،التي اتخذوها أولياء من دون الله ،فقد أوضحها تعالى في آيات كثيرة ،كقوله تعالى في هود:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شيء لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [ هود: 101] .وقوله تعالى{فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [ الأحقاف: 28] .وقوله تعالى:{وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} [ القصص: 64]: وقوله تعالى{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} [ الكهف: 52] وقوله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً} [ الأحقاف: 5 -6] الآية وقوله تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير ٍإِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [ فاطر: 13 -14] .وقوله تعالى:{وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [ مريم: 81 -82] ،وقوله تعالى:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [ العنكبوت: 25] ،وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ} ،الأولياء جمع ولي .
والمراد بالأولياء هنا ،المعبودات التي يوالونها بالعبادة من دون الله ،{وَمَا كَسَبُواْ} في قوله:{وَمَا} ؟{ومَا اتَّخَذُواْ} موصولة وهي في محل رفع في الموضعين ،لأن{مَا} الأولى فاعل{يُغْنِى} ؟{وَمَا} الثانية معطوفة عليها وزيادة لا ،قبل المعطوف على منفي معروفة .وقوله:{وَلاَ يُغْنِي} أي لا ينفع .والظاهر أن أصله من الغناء بالفتح والمد وهو النفع .
ومنه قول الشاعر:
وقل غناء عنك مال جمعته *** إذا صار ميراثاً وواراك لاحد
فقوله: قل غناء أي قل نفعاً .وقول الآخر:
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا *** قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا
فقوله: الغناء أي النفع .
والبيت من شواهد إعمال المصدر المعرف بالألف واللام ،لأن قوله: قول الأحبة ،فاعل قوله الغناء .وأما الغناء بالكسر والمد فهو الألحان المطربة .
وأما الغنى بالكسر والقصر فهو ضد الفقر .
وأما الغنى بالفتح والقصر فهو الإقامة ،من قولهم غني بالمكان بكسر النون يغنى بفتحها غنى بفتحتين إذا أقام به .
ومنه قوله تعالى{كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [ يونس: 24] وقوله تعالى{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} [ الأعراف: 92] كأنهم لم يقيموا فيها .
وأما الغنى بالضم والقصر فهو جمع غنية وهي ما يستغني به الإنسان .
وأما الغناء بالمد والضم فلا أعلمه في العربية .
وهذه اللغات التي ذكرنا في مادة غنى كنت تلقيتها في أول شبابي في درس من دروس الفقه لقننيها شيخي الكبير أحمد الأفرم بن محمد المختار الجكني ،وذكر لي بيتي رجز في ذلك لبعض أفاضل علماء القطر وهما قوله:
وضد فقر كإلى وكسحاب *** النفع والمطرب أيضاً ككتاب
وكفتى إقامة وكهنا *** جمع لغنية لما به الغنى