قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأمر وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَ هُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [ 25 -28] .
الظاهر أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ،قوم كفروا بعد إيمانهم .
وقال بعض العلماء: هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ،فلما بعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به .
وعلى هذا القول فارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به بعد أن عرفوه وتيقنوه ،وعلى هذا فالهدى الذي تبين لهم هو صحة نبوته صلى الله عليه وسلم ومعرفته بالعلامات الموجودة في كتبهم .
وعلى هذا القول فهذه الآية يوضحها قوله تعالى في سورة البقرة:{وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [ البقرة: 89] لأن قوله:
{فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ} مبين معنى قوله:{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} ،وقوله{كَفَرُواْ بِهِ} مبين معنى قوله:{ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ} .
وقال بعض العلماء: نزلت الآية المذكورة في المنافقين .
وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى ،هو إغواء الشيطان لهم كما قال تعالى مشيراً إلى علة ذلك{الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} أي زين لهم الكفر والارتداد عن الدين ،وأملى لهم أي مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر .
قال الزمخشري: سول سهل لهم ركوب العظائم من السول ،وهو الاسترخاء ،وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً .
وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأماني .انتهى .
وإيضاح هذا أن هؤلاء المرتدين على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وقع لهم ذلك بسبب أن الشيطان سول لهم ذلك أي سهله لهم وزينه لهم وحسنه لهم ومناهم فصول الأعمار .
لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتكاب الكفر والمعاصي .
وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان: قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو ،وأملى لهم بفتح الهمزة واللام بعدها ألف وهو فعل ماض مبني للفاعل ،وفاعله ضمير يعود إلى الشيطان .
وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل ،ومنه قوله تعالى:{وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[ الأعراف: 183] ،وقوله تعالى:{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [ آل عمران: 178] الآية .
ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار ،كما قال تعالى:{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} [ النساء: 120] .
وقال تعالى:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} إلى قولك{وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} [ الإسراء: 64] .
وقال بعض العلماء: ضمير الفاعل في قوله{وَأَمْلَى لَهُمْ} على قراءة الجمهور راجع إلى الله تعالى .
والمعنى: الشيطان{سَوَّلَ لَهُمْ} أي سهل لهم الكفر والمعاصي ،وزين ذلك وحسنه لهم ،والله جل وعلا أملى لهم: أي أمهلهم إمهال استدراج .
وكون التسويل من الشيطان والإمهال من الله ،قد تشهد لهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى في تزيين الشيطان لهم{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [ الأنفال: 38] الآية .وقوله تعالى ،{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ النحل: 63] ،وقوله تعالى:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الأمر إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [ إبراهيم: 22] الآية .إلى غير ذلك من الآيات .
وكقوله تعالى في إملاء الله لهم استدراجاً:{سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كيدي مَتِينٌ} [ الأعراف: 182 -183] .وقوله تعالى:{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [ آل عمران: 178] وقوله تعالى:{قُلْ مَن كَانَ في الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً} [ مريم: 75] وقوله تعالى:{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شيء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [ الأنعام: 44] وقوله تعالى:{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [ الأعراف: 95] .وقوله تعالى{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [ المؤمنون: 55 -56] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وجده من السبعة وأملي لهم بضم الهمزة وكسر اللام بعدها ياء مفتوحة بصيغة الماضي المبني للمفعول والفاعل المحذوف فيه الوجهان المذكوران آنفاً في فاعل ،وأملي لهم على قراءة الجمهور بالبناء للفاعل .
وقد ذكرنا قريباً ما يشهد لكل منهما من القرآن كقوله تعالى في إملاء الشيطان لهم{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} [ النساء: 120] وقوله في إملاء الله لهم:{وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كيدي مَتِينٌ} [ الأعراف: 183] كما تقدم قريباً ،والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأمر} راجعة إلى قوله تعالى ،{الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} .
أي ذلك التسويل والإملاء المفضي إلى الكفر بسبب أنهم{قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ في بَعْضِ الأمر} .
وظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون .
والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل ،أنه كافر بالله بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم ْذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .
وقد قدمنا ما يوضح ذلك من القرآن في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شيء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [ الشورى: 10] وفي مواضع عديدة من هذا الكتاب المبارك .
وبينا في سورة الشورى أيضاً شدة كراهة الكفار لما نزل الله ،وبينا ذلك بالآيات القرآنية في الكلام على قوله تعالى{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [ الشورى: 13] .
وقد قدمنا مراراً أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .