وقوله:{وَالْحَبُّ} كالقمح ونحوه .
وقوله:{ذُو الْعَصْفِ} ،قال أكثر العلماء: العصف ورق الزرع ،ومنه قوله تعالى{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [ الفيل: 5] وقيل العصف: التبن .
وقوله:{وَالرَّيْحَانُ}: اختلف العلماء في معناه ،فقال بعض أهل العلم: هو كل ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه .وقال بعض العلماء الريحان: الرزق ،ومنه قول النجم بن تولب العكلي:
فروح الإله وريحانه *** ورحمته وسماء درر
غمام ينزل رزق العباد *** فأحيا البلاد وطاب الشجر
ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي ،وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين .
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم:{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث ،وهو عطف على فاكهة أي فيها فاكهة ،وفيها الحب إلخ ،وقرأه ابن عامر:
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} ،بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث ،وفي رسم المصحف الشامي ذا العصف بألف بعد الذال ،مكان الواو ،والمعنى على قراءته: وخلق الحب ذا العصف والريحان ،وعلى هاتين القراءتين ،فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين .
وقراءة حمزة والكسائي بضم الباء في الحب وضم الذال في ذو العصف وكسر نون الريحان عطفاً على العصف ،وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم لأن الحب الذي هو القمح ونحوه صاحب عصف وهو الورق أو التبن وليس صاحب مشموم طيب ريح .
فيتعين على هذه القراءة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن ،والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب ،فالآية على هذا المعنى كقوله{مَتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم} [ النازعات: 33] وقوله تعالى{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} [ السجدة: 27] .
وقوله تعالى{فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [ طه: 53 -54] وقوله تعالى{لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} [ النحل: 10 -11] الآية .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{فِيهَا فَاكِهَةٌ} ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع ،جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الفلاح{لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [ المؤمنون: 19] وقوله تعالى:{وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [ عبس: 31] إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحاً في آيات أخر ،كقوله تعالى:{فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ ق: 9] ،وقوله تعالى{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً} [ عبس: 27 -28] وقوله تعالى:{وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [ يس: 33] ،وقوله تعالى{نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} [ الأنعام: 99] .وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [ الأنعام: 95] إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنحل ،جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ} [ ق: 10 -11] ،وقوله تعالى{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [ المؤمنون: 19] الآية ،والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان ،على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي ،جاء موضحاً في آيات كثيرة أيضاً كقوله تعالى:{هُوَ الذي يُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً} [ غافر: 13] وقوله تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض} [ يونس: 31] الآية ،وقوله تعالى:{أَمَّنْ هَذَا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [ الملك: 21] .وقوله تعالى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [ غافر: 64] الآية ،والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
مسألة
أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى:{هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً} أن الأصل فيما على الأرض الإباحة ،حتى يرد دليل خاص بالمنع ،لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض ،وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمان هذه ،وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً في قوله{هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً} [ البقرة: 29] .
ومعلوم أنه جل وعلا لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم ،واستدلوا لذلك أيضاً بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله ،كقوله تعالى{قُل لاَ أَجِدُ في مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [ الأنعام: 145] الآية ،وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [ الأعراف: 33] الآية .وقوله تعالى{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [ الأنعام: 151] الآية .
وفي هذه المسألة قولان آخران .
أحدهما: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة ،واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله جل وعلا ،والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه ،وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول ،ليس هذا محل بسطها .
القول الثاني: هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل ،فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب: المنع ،والإباحة ،والوقف .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل ،لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس بها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها .
الثانية: أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة .
الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى ،فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر ،فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله:{هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعاً} [ البقرة: 29] .وقوله{والأرض وَضَعَهَا للأنام} [ الرحمان: 10] الآية .
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار » .
وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون النفع أرجح من الضرر .
والثانية: عكس هذا .
والثالثة: أن يتساوى الأمران .
فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساوياً له فالمنع لحديث «لا ضرر ولا ضرار » ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ،وإن كان النفع أرجح ،فالأظهر الجواز ،لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة ،كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
*وألغ إن يك الفساد أبعدا *
أو رجح الإصلاح كالأسارا *** تفدى بما ينفع للنصارا
وانظر تدلي دولي العنب *** في كل مشرق وكل مغرب
ومراده: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة ،أو البعيدة ممثلاً له بمثالين:
الأول منهما: أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة ،التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى .
الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب ،مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب ،فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه ،لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة ،وهذا التفصيل الذي اخترنا ،قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
والحكم ما به يجيء الشرع *** وأصل كل ما يضر المنع
تنبيه
اعلم أن علماء الأصول يقولون: إن الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع ،ويقولون إن الدليل على ذلك عقلي ،وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية ،وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه .
ونحن نقول: إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة ،ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ} [ البقرة: 279] الآية ،وكانت وقت نزولها عندهم أموال مكتسبة من الربا ،اكتسبوها قبل نزول التحريم ،بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا ،على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا حرج عليهم فيه ،إذ لا تحريم إلا ببيان ،وذلك في قوله تعالى:{فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [ البقرة: 275] وقوله: ما سلف أي ما مضى قبل نزول التحريم ،ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [ النساء: 22] وقوله تعالى{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [ النساء: 23] والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله:{إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} .منقطع أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم ،فهو عفو ،لأنه على البراءة الأصلية .
ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} [ التوبة: 115] لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته على الشرك ،واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين عاتبهم الله في قوله{مَا كَانَ للنبي وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى} [ التوبة: 113] الآية .ندموا على الاستغفار لهم ،فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به ،لأنه وقع قبل بيان منعه ،وهذا صريح فيما ذكرنا .
وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضاً في الكلام على قوله تعالى{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [ الإسراء: 15] وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك ،وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية .والعلم عند الله تعالى .