قوله تعالى:{وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} .
العائل: صاحب العيال ،وقيل: العائل الفقير ،على أنه من لازم العيال الحاجة ،ولكن ليس بلازم ،ومقابلة عائلاً بأغنى ،تدل على أن معنى عائلاً أي فقيراً ،ولذا قال الشاعر:
فما يدري الفَقير متى غناه *** ومَا يدري الغنى متى يعيل
وما تدري وإن ذمرت سقبا *** لغيرك أم يكون لك الفَصيل
وهذا مما يذكره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من تعداد النعم عليه ،وأنه لم يودعه وما قلاه ،لقد كان فقيراً من المال فأغناه الله بمال عمه .
وقد قال عمه في خطبة نكاحه بخديجة: وإن كان في المال قلّ فما أحببتم من الصداق ،فعليّ ،ثم أغناه الله بمال خديجة ،حيث جعلت مالها تحت يده .
قال النيسابوري ما نصه: يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهو مغموم ،فقالت: مالك ؟فقال: الزمان زمان قحط ،فإن أنا بذلت المال ينفد مالك ،فأستحي منك ،وإن أنا لم أبذل أخاف اللَّه ،فدعت قريشاً وفيهم الصديق ،قال الصديق: فأخرجت دنانير حتى وضعتها ،بلغت مباناً لم يقع بصري على من كان جالساً قدامي ،ثم قالت: اشهدوا أن هذا المال ماله ،إن شاء فرَّقه وإن شاء أمسكه .
فهذه القصة وإن لم يذكر سندها ،فليس بغريب على خديجة رضي الله عنها أن تفعل ذلك له صلى الله عليه وسلم ،وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك ،حين دخلت معه الشعب فتركت مالها ،واختارت مشاركته صلى الله عليه وسلم لما هو فيه من ضيق العيش ،حتى أكلوا ورق الشجر ،وأموالها طائلة في بيتها .
ثم كانت الهجرة وكانت مواساة الأنصار ،لقد قدم المدينة تاركًا ماله ومال خديجة ،حتى إن الصديق ليدفع ثمن المربد لبناء المسجد ،وكان بعد ذلك فيء بني النضير ،وكان يقضي الهلال ثم الهلال ثم الهلال ،لا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار ،إنما هما الأسودان: التمر والماء .
ثم جاءت غنائم حنين ،فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر ،ورجع بدون شيء ،وجاء مال البحرين فأخذ العباس ما يطيق حمله ،وأخيراً توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في آصع من شعير .
وقوله تعالى:{وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} ،يشير إلى هذا الموضع ،لأن أغنى تعبير بالفعل ،وهو يدل على التجدد والحدوث ،فقد كان صلى الله عليه وسلم من حيث المال حالاً فحالاً ،والواقع أن غناه صلى الله عليه وسلم كان قبل كل شيء ،هو غنى النفس والاستغناء عن الناس ،ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم أجود الناس .
وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة ،فكان صلى الله عليه وسلم القدوة في الحالتين ،في حالي الفقر والغنى ،إن قلَّ ماله صبر ،وإن كثر بذل وشكر .
استغن ما أغناك ربك بالغنى *** وإذا تصبك خصاصة فتجمل
ومما يدل على عظم عطاء الله له مما فاق كل عطاء .قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ} ،ثم قال:{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
وقد اختلفوا في المقارنة بين الفقير الصابر والغنى الشاكر ،ولكن الله تعالى قد جمع لرسوله صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين ،ليرسم القدوة المثلى في الحالتين .
تنبيه
في الآية إشارة إلى أن الإيواء والهدى والغنى من الله لإسنادها هنا للَّه تعالى .
ولكن في السياق لطيفة دقيقة ،وهي معرض التقرير ،يأتي بكاف الخطاب: ألم يجدك يتيماً ،ألم يجدك ضالاً ،ألم يجدك عائلاً ،لتأكيد التقرير ،لم يسند اليتم ولا الإضلال ولا الفقر للَّه ،مع أن كله من اللَّه ،فهو الذي أوقع عليه اليتم ،وهو سبحانه الذي منه كلما وجده عليه ،ذلك لما فيه من إيلام له ،فما يسنده للَّه ظاهراً ،ولما فيه من التقرير عليه أبرز ضمير الخطاب .
وفي تعداد النعم: فآوى ،فهدى ،فأغنى .أسند كله إلى ضمير المنعم ،ولم يبرز ضمير الخطاب .
قال المفسرون: لمراعاة رؤوس الآي والفواصل ،ولكن الذي يظهر واللَّه تعالى أعلم: أنه لما كان فيه امتنان ،وأنها نعم مادية لم يبرز الضمير لئلا يثقل عليه المنة ،بينما أبرزه في:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ 1 وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ 2 وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} ،ورفعنا لك ذكرك .لأنها نعم معنوية ،انفرد بها صلى الله عليه وسلم .واللَّه تعالى أعلم .