هذا تفصيل لما ردّ به مقالة قومه إجمالاً ،فهم استدلوا على نفي نبُوّته بأنهم لم يروا له فضلاً عليهم ،فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجَب أنه لم يدع فضلاً غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه عليهم السّلام في قوله:{ قالت لهم رسلهم إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده}[ إبراهيم: 11] ،ولذلك نفى أن يكون قد ادّعى غير ذلك .واقتصر على بعض ما يتوهّمونه من لوازم النبوءة وهو أن يكون أغنى منهم ،أو أن يعلم الأمور الغائبة .والقول بمعنى الدعوى ،وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدّلالة على أنّه منتف عنه ذلك في الحال ،فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله ،أي لا تظنوا أني مضمر ادّعاء ذلك وإن لم أقله .
والخزائن: جمع خِزانة بكسر الخاء وهي بيت أو مِشكاة كبيرة يجعل لها باب ،وذلك لِخزن المال أو الطعام ،أي حفظه من الضياع .وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية ؛شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تُدخر في الخزائن ،ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبّه به وهو الخزائن .وإضافة{ خزائن} إلى{ الله} لاختصاص الله بِها .
وأما قوله:{ ولا أقول إني ملك} فنفي لشبهة قولهم:{ ما نراك إلاّ بشراً مثلنا}[ هود: 27] ولذلك أعاد معه فعل القول ،لأنه إبطال دعوى أخرى ألصقوها به ،وتأكيده ب ( إنّ ) لأنه قول لا يقوله قائله إلا مؤكداً لشدة إنكاره لو ادعاه مدّع ،فلما نفاه نفى صيغة إثباته .ولمّا أراد إبطال قولهم:{ وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا}[ هود: 27] أبطله بطريقة التغليط لأنهم جعلوا ضعفهم وفقرهم سبباً لانتفاء فضلهم ،فأبطله بأن ضعفهم ليس بحائل بينهم وبين الخير من الله إذ لا ارتباط بين الضعف في الأمور الدنيوية من فقر وقلة وبين الحرمان من نوال الكمالات النفسانية والدينية ،وأعاد معه فعل القول لأنه أراد من القول معنى غيرَ المراد منه فيما قيل ،فالقول هنا كناية عن الاعتقاد لأن المرء إنما يقول ما يعتقد ،وهي تعريضية بالمخاطبين لأنهم يضمون ذلك ويقدرونه .
والازدراء: افتعال من الزري وهو الاحتقار وإلصاق العيب ،فأصله: ازتراء ،قلبت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كما قلبت في الازدياد .
وإسناد الازدراء إلى الأعين وإنما هو من أفعال النفس مجاز عقلي لأن الأعين سبب الازدراء غالباً ،لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة عند الناظر .ونظيره إسناد الفرق إلى الأعين في قول الأعشى:
كذلك فافعل ما حييت إذا شتَوْا *** وأقدم إذا ما أعينُ الناس تَفرَقُ
ونظيره قوله تعالى:{ سَحروا أعْينَ الناس}[ الأعراف: 116] وإنما سحروا عقولهم ولكن الأعين ترى حركات السحرة فتؤثر رؤيتها على عقول المبصرين .
وجيء في النفي بحرف{ لن} الدّالة على تأكيد نفي الفعل في المستقبل تعريضاً بقومه لأنّهم جعلوا ضعف أتباع نوح عليه السّلام وفقرهم دليلاً على انتفاء الخير عنهم فاقتضى دوام ذلك ما داموا ضعفاء فقراء ،فلسان حالهم يقول: لن ينالوا خيراً ،فكان رده عليهم بأنه لا يقول:{ لن يؤتيهم الله خيراً} .
وجملة{ الله أعلم بما في أنفسهم} تعليل لنفي أن يقول:{ لن يؤتيهم الله خيراً} .ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف ،ومعنى{ الله أعلم بما في أنفسهم} أن أمرهم موكول إلى ربهم الذي علم ما أودعه في نفوسهم من الخير والذي وفقهم إلى الإيمان ،أي فهو يعاملهم بما يعلم منهم .وتعليقه بالنفوس تنبيه لقومه على غلطهم في قولهم:{ وما نرى لكم علينا من فضل}[ هود: 27] بأنهم نظروا إلى الجانب الجثماني الدنيوي وجهلوا الفضائل والكمالات النفسانية والعطايا اللدنية التي اللّهُ أعلم بها .
واسم التفضيل هنا مسلوبُ المفاضلة مقصود منه شدة العلم .
وجملة{ إني إذن لمن الظالمين} تعليل ثان لنفي أن يقول:{ لن يؤتيهم الله خيراً} .و{ إذن} حرف جواب وجزاء مجازاة للقَول ،أي لو قلت ذلك لكنت من الظالمين ،وذلك أنه يظلمهم بالقضاء عليهم بما لا يعلم من حقيقتهم ،ويظلم نفسه باقتحام القول بما لا يصدق .
وقوله:{ لمن الظالمين} أبلغ في إثبات الظلم من: إني ظالم ،كما تقدم في قوله تعالى:{ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} في سورة[ البقرة: 67] .
وأكده بثلاث مؤكدات: إنّ ولام الابتداء وحرف الجزاء ،تحقيقاً لظلم الذين رموا المؤمنين بالرذالة وسلبوا الفضل عنهم ،لأنه أراد التعريض بقومه في ذلك .وسيجيء في سورة الشعراء ذكر موقف آخر لنوح عليه السلام مع قومه في شأن هؤلاء المؤمنين .