/م28
{ ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} هذا معطوف على قوله: "لا أسألكم عليه أجرا "ولهذا لم يكرر النداء فيه .وهذه الثلاث التي نفاها نوح عليه السلام عن نفسه هي التي كان يظن المشركون من قومه وممن بعدهم أن ثبوتها لازم لمن كان نبيا مرسلا من الله تعالى إن صحت دعواه ، وإلا كان كسائر البشر لا فضل له عليهم ، ومن ثم كان نفيها متضمنا لرد شبهة حجتهم الثالثة ، ولهذا أمر الله تعالى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بنفيها عن نفسه في سورة الأنعام [ 50] ونختصر في تفسيرها هنا لتفصيله هنالك .
{ أما خزائن الله} تعالى فالمراد منها أنواع رزقه التي يحتاج إليها عباده للإنفاق منها كما قال:{ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا} [ الإسراء:100] والمعنى لا أقول لكم بادعائي للنبوة والرسالة إن عندي خزائن رزق الله تعالى أتصرف فيها بغير وسائل الأسباب المسخرة لسائر الناس ، بحيث أنفق على نفسي وعلى من اتبعني بالتصرف فيها بخوارق العادات ، بل أنا وغيري من البشر في كسبها سواء إذ ليست من موضوع الرسالة ولا من خصائصها ووظائفها ، ولو كانت كذلك لاتبع الناس الرسل لأجلها ، لا لما بعثوا لأجله من تزكية الأنفس بمعرفة الله وعبادته ، وتأهيلها للقائه تعالى ومثوبته في دار كرامته .
وأما علم الغيب فالمراد به امتياز النبي على سائر البشر بعلم ما لا يصل إليه علمهم الكسبي من مصالحهم ومنافعهم ومضارهم في معايشهم وكسبهم فيخبر بها أتباعه ليفضلوا غيرهم بالتبع له ، ولهذا أمر الله خاتم النبيين أن يقول لقومه{ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [ الأعراف:188] وقال بعض المفسرين إن نفي ادعائه الغيب يتضمن الرد على قولهم في اتباعه أنهم اتبعوه بادي الرأي من غير تفكر ولا استدلال فهم غير موقنين بإيمانهم ، وإنما يظنون ظنا ، فهو يقول:إنه لم يعط علم الغيب فيحكم على بواطنهم وإنما أمر أن يأخذ بالظاهر ، والله هو الذي يعلم السرائر ، وهذان الأمران اللذان نفاهما كتاب الله عن رسله يثبتهما مبتدعة المسلمين وأهل الكتاب لمن يسمونهم الأولياء والقديسين منهم ، وقد بينا بطلان هذا مرارا .
وأما نفي كونه ملكا فهو داحض لشبهتهم أن الرسول من الله إلى البشر يجب أن يفضلهم ويمتاز عليهم ، وإذن لا بد أن يكون ملكا من ملائكة الله يعلم ما لا يعلم البشر ويقدر على ما لا يقدر عليه البشر ، وهذه المسألة مفصلة ومكررة في سورة الأنعام وبينا في خلاصة تفسيرها من ( جزء التفسير الثامن ) جملة ما جاء فيها مع شواهده من غيرها في ذلك تحت عنوان ( شبهات الكفار على الوحي والرسالة ) فراجعها .
{ ولا أقول للذين تزدري أعينكم} الازدراء افتعال من الزراية ، يقال زرى على فلان يزري زرية وزراية [ بالكسر] إذا عابه واستهزأ به ، وأزرى به إزراء تهاون به ، أي ولا أقول في شأن الذين تنظرون إليهم نظر الاستصغار والاحتقار فتزدريهم أعينكم لفقرهم ورثاثتهم{ لن يؤتيهم الله خيرا} كما تقولون أنتم والمراد بالخير ما وعد على الإيمان والهدى من سعادة الدنيا والآخرة ، ويراجع تفسير ما حكى الله عن كفار قريش بقوله:{ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} [ الأحقاف:11] وغير هذا مما في معناه .
{ الله أعلم بما في أنفسهم} مما آتاهم من الإيمان على بصيرة ، واتباع رسوله بإخلاص وصدق سريرة ، خلافا لما زعمتم من اتباعي بادي الرأي بغير بصيرة ولا علم{ إني إذا لمن الظالمين} أي إني إذا قلت ذلك فيهم لمن الظالمين ؛ إذ أكون ظالما لنفسي بالتقول على الله غير ما أعلمه عنه من وعد المؤمنين بخير الدنيا والآخرة ، وظالما للمؤمنين المحسنين بهضم حقهم ، ويجوز أن يكون المعنى:إني إذا قلت شيئا مما نفيته من أول الآية بأن ادعيت أني أملك التصرف في خزائن رزق الله ورحمته بالعطاء والمنع أو أعلم الغيب الخ لمن زمرة الظالمين الراسخين في الظلم ، لا من الأنبياء المرسلين المعتصمين بالحق والعدل ، وفي هذا التعليل لاجتناب ما ذكر تعريض بالمخاطبين ، يدل على أنهم من الظالمين ، وبهذا تمت حجته عليه السلام عليهم ، ودحضه لجميع شبهاتهم ، ولذلك قالوا قول المعترف بالعجز ، المنتهي به عجزه إلى حد اليأس:{ قال يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( 32 )} .
/خ49