فصلت الجملتان لوقوعهما موقع المحاورة بين موسى مع أخيه وبين الله تعالى على كلا الوجهين اللذين ذكرناهما آنفاً ،أي جمعا أمرهما وعزم موسى وهارون على الذهاب إلى فرعون فناجيا ربّهما{ قَالاَ رَبَّنا إنَّنا نَخَافُ أن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أو أن يطغى} ،لأنّ غالب التفكير في العواقب والموانع يكون عند العزم على الفعل ،والأخذِ في التهيُّؤ له ،ولذلك أُعيد أمرهما بقوله تعالى:{ فَأْتِيَاهُ} .
و{ يَفْرُطَ} معناه يعجّل ويسبق ،يقال: فَرط يفرُط من باب نصر .والفارط: الذي يسبق الواردة إلى الحوض للشرب .والمعنى: نخاف أن يعجّل بعِقابنا بالقتل أو غيره من العقوبات قبل أن نبلُغه ونحجّه .
والطغيان: التظاهر بالتكبر .وتقدم آنفاً عند قوله{ اذهب إلى فرعون إنه طغى}[ طه: 24] ،أي نخاف أن يُخامره كبره فيعدّ ذكرنا إلهاً دونه تنقيصاً له وطعْناً في دعواه الإلهية فيطغى ،أي يصدر منه ما هو أثر الكبر من التحقير والإهانة .فذكر الطغيان بعد الفَرط إشارة إلى أنّهما لا يطيقان ذلك ،فهو انتقال من الأشدّ إلى الأضعف لأن{ نخاف يؤول إلى معنى النفي .وفي النفي يذكر الأضعف بعد الأقوى بعكس الإثبات ما لم يوجد ما يقتضي عكس ذلك .
وحذف متعلّق{ يطغى} فيحتمل أن حذفه لدلالة نظيره عليه ،وأوثر بالحذف لرعاية الفواصل .والتقدير: أو أن يطغى علينا .ويحتمل أن متعلّقه ليس نظير المذكور قبله بل هو متعلّق آخر لكون التقسيم التقديري دليلاً عليه ،لأنهما لما ذكر متعلّق{ يفرط علينا وكان الفَرْط شاملاً لأنواع العقوبات حتى الإهانة بالشتم لزم أن يكون التقسيم بأو منظوراً فيه إلى حالة أخرى وهي طغيانه على من لا يناله عقابه ،أي أن يطغى على الله بالتنقيص كقوله:{ ما علمت لكم من إله غيري}[ القصص: 38] وقوله:{ لعليّ اطّلِعُ إلى إله موسى}[ القصص: 38] ،فحذف متعلق{ يطغى حينئذ لتنزيهه عن التصريح به في هذا المقام .والتقدير: أو أن يطغى عليك فيتصلّب في كفره ويعسر صرفه عنه .وفي التحرز من ذلك غيرة على جانب الله تعالى ،وفيه أيضاً تحرز من رسوخ عقيدة الكفر في نفس الطاغي فيصير الرجاء في إيمانه بعد ذلك أضعف منه فيما قبل ،وتلك مفسدة في نظر الدّين .وحصلت مع ذلك رعاية الفاصلة .