لعل قصد إفادة قوة توليه لمّا رأى عصاه تهْتَزّ هو الداعي لتأكيد فعل{ ولّى} بقوله:{ مدبراً ولم يعقب} فتأمّل .
والإدبار: التوجه إلى جهة الخلف وهو ملازم للتولي فقوله:{ مدبراً} حال لازمة لفعل{ ولَّى} .
والتعقب: الرجوع بعد الانصراف مشتق من العَقب لأنه رجوع إلى جهة العَقب ،أي الخلْف ،فقوله:{ ولم يعقب} تأكيد لشدة تولّيه ،أي ولّى تولياً قوياً لا تردد فيه .وكان ذلك التولي منه لتغلّب القوة الواهمة التي في جبلة الإنسان على قوة العقل الباعثة على التأمل فيما دل عليه قوله:{ أنا الله العزيز} من الكناية عن إعطائه النبوءة والتأييد ،إذ كانت القوة الواهمة متأصلة في الجبلة سابقة على ما تلقاه من التعريض بالرسالة ،وتأصُّل القوة الواهمة يزول بالتخلق وبمحاربة العقل للوهَم فلا يزالان يتدافعان ويضعف سلطان الوَهَم بتعاقب الأيام .
وقوله:{ يا موسى لا تخف} مقول قول محذوف ،أي قلنا له .والنهي عن الخوف مستعمل في النهي عن استمرار الخوف .لأن خوفه قد حصل .والخوف الحاصل لموسى عليه السلام خوف رغب من انقلاب العصا حية وليس خوف ذَنب ،فالمعنى: لا يَجْبُنُ لديَّ المرسلون لأني أحفَظُهم .
و{ إني لا يخاف لديّ المرسلون} تعليل للنهي عن الخوف وتحقيق لما يتضمنه نهيه عن الخوف من انتفاء موجبه .
وهذا كناية عن تشريفه بمرتبة الرسالة إذ عُلّل بأن المرسلين لا يخافون لدى الله تعالى .ومعنى{ لديّ} في حضرتي ،أي حين تلقِّي رسالتي .وحقيقة{ لدي} مستحيلة على الله لأن حقيقتها المكان .
وإذا قد كان انقلاب العصا حية حصل حين الوحي كان تابعاً لما سبقه من الوحي ،وهذا تعليم لموسى عليه السلام التخلق بخلق المرسلين من رِبَاطة الجأش .وليس في النهي حط لمرتبة موسى عليه السلام عن مراتب غيره من المرسلين وإنما هو جار على طريقة: مثلُكَ لا يبخل .والمراد النهي عن الخوف الذي حصل له من انقلاب العصا حية وعن كل خوف يخافه كما في قوله:{ فاضْرِب لهم طريقاً في البَحر يَبَساً لا تخافُ درَكاً ولا تخشى}[ طه: 77] .