عطف على قوله{ يا أيها النبي اتق الله ولا تُطِع الكافرين والمنافقين} إلى قوله:{ وكفى بالله وكيلاً}[ الأحزاب: 1 3] فلذلك تضمن الأمر بإقامة الدين على ما أراده الله تعالى وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى نبذ سنن الكافرين الصرحاء والمنافقين من أحكام الهوى والأوهام .
فلما ذكر ذلك وعقب بمثل ثلاثة من أحكام جاهليتهم الضالة بما طال من الكلام إلى هنا ثُني عنان الكلام إلى الإعلام بأن الذي أمره الله به هو من عهود أخذها الله على النبيئين والمرسلين من أول عهود الشرائع .وتربط هذا الكلام بالكلام الذي عطف هو عليه مناسبة قوله:{ كان ذلك في الكتاب مسطوراً}[ الأحزاب: 6] .وبهذا الارتباط بين الكلامين لم يُحتج إلى بيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيئين ،فعُلم أن المعنى: وإذا أخذنا من النبيئين ميثاقهم بتقوى الله وبنبذ طاعة الكافرين والمنافقين وباتباع ما أوحى الله به .وقوله{ إن الله كان عليماً حكيماً}[ الأحزاب: 1]{ ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً} فلما أمر النبي بالاقتصار على تقوى الله وبالإعراض عن دعوى الكافرين والمنافقين ،أُعلم بأن ذلك شأن النبيئين من قبله ،ولذلك عطف قوله{ ومنك} عقب ذكر النبيئين تنبيهاً على أن شأن الرسل واحد وأن سنة الله فيهم متحدة ،فهذه الآية لها معنى التذييل لآية{ يأيها النبي اتق الله ولا تُطع الكافرين والمنافقين}[ الأحزاب: 1] الآيات الثلاث ولكنها جاءت معطوفة بالواو لبعد ما بينها وما بين الآيات الثلاث المتقدمة .
وقوله{ وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} الآيتين لهما موقع المقدمة لقصة الأحزاب لأن مما أخذ الله عليه ميثاق النبيئين أن ينصروا الدين الذي يرسله الله به ،وأن ينصروا دين الإسلام ،قال تعالى:{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لَمَا ءاتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لَتُؤْمِنُنَّ به ولتنصرُنّه}[ آل عمران: 81] فمحمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالنصرة لدينه بمن معه من المسلمين لقوله في هذه الآية:{ ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً} وقال في الآية الآتية في الثناء على المؤمنين الذين صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه{ ليجزي الله الصادقين بِصدْقِهم ويعذِّب المنافقين} الآية[ الأحزاب: 24] .
وقد جاء قوله:{ وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم} جارياً على أسلوب ابتداء كثير من قصص القرآن في افتتاحها ب{ إذْ} على إضمار ( اذكر ) .و{ إذْ} اسم للزمان مجرد عن معنى الظرفية .فالتقدير: واذكر وقتاً ،وبإضافة{ إذ} إلى الجملة بعده يكون المعنى: اذكر وقتَ أخذِنا ميثاقاً على النبيئين .وهذا الميثاق مجمل هنا بينته آيات كثيرة .وجُماعها أن يقولوا الحق ويبلِّغوا ما أمروا به دون ملاينة للكافرين والمنافقين ،ولا خشية منهم ،ولا مجاراة للأهواء ،ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلالهم .
وأن الله واثقهم ووعدهم على ذلك بالنصر .ولما احتوت عليه هذه السورة من الأغراض مزيد التأثر بهذا الميثاق بالنسبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وشديد المشابهة بما أخذ من المواثيق على الرسل من قبله .ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى هنا:{ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل}[ الأحزاب: 4] وقوله في ميثاق أهل الكتاب{ ألَمْ يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} في سورة الأعراف ( 169 ) .
وفي تعقيب أمر الرسول بالتقوى ومخالفة الكافرين والمنافقين والتثبيت على اتّباع ما يوحى إليه ،وأمره بالتوكل على الله ،وجعلها قبل قوله{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود}[ الأحزاب: 9] الخ ..إشارة إلى أن ذلك التأييد الذي أيد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه إذ ردّ عنهم أحزاب الكفار والمنافقين بغيظهم لم ينالوا خيراً ما هو إلا أثر من آثار الميثاق الذي أخذه الله على رسوله حين بعثه .
والميثاق: اسم العهد وتحقيق الوعد ،وهو مشتق من وثق ،إذا أيقن وتحقق ،فهو منقول من اسم آلة مجازاً غلب على المصدر ،وتقدم في قوله تعالى:{ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} في سورة البقرة ( 27 ) .وإضافة ميثاق إلى ضمير النبيئين من إضافة المصدر إلى فاعله على معنى اختصاص الميثاق بهم فيما أُلزموا به وما وعدهم الله على الوفاء به .ويضاف أيضاً إلى ضمير الجلالة في قوله{ واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به}[ المائدة: 7] .
وقوله{ ومنك ومن نوح} الخ هو من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام بهم فإن هؤلاء المذكورين أفضل الرسل ،وقد ذُكر ضمير محمد صلى الله عليه وسلم قبلهم إيماء إلى تفضيله على جميعهم ،ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود .ولهذه النكتة خص ضمير النبي بإدخال حرف ( من ) عليه بخصوصه ،ثم أدخل حرف ( مِن ) على مجموع الباقين فكان قد خصّ باهتمامين: اهتمام التقديم ،واهتمام إظهار اقتران الابتداء بضمير بخصوصه غير مندمج في بقيتهم عليهم السلام .
وسيجيء أن ما في سورة الشورى من تقديم{ ما وصَّى به نوحاً على والذي أوحينا إليك}[ الشورى: 13] طريق آخر هو آثر بالغرض الذي في تلك السورة من قوله تعالى:{ شَرَع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم} الآية[ الشورى: 13] .
وجملة{ وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً} أعادت مضمون جملة{ وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم} لزيادة تأكيدها ،وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ ،أي: عظيماً جليل الشأن في جنسه فإن كل ميثاق له عظَمٌ فلما وصف هذا ب{ غليظاً} أفاد أن له عظماً خاصاً ،وليعلّق به لام التعليل من قوله{ لِيَسْأل الصادقين} .
وحقيقة الغليظ: القويّ المتين الخلق ،قال تعالى:{ فاستغلظ فاستوى على سوقه}[ الفتح: 29] .واستعير الغليظ للعظيم الرفيع في جنسه لأن الغليظ من كل صنف هو أمكنُه في صفات جنسه .