وجملة{ فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلُهم بالبينات} الآية مفرعة على جملة{ كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم} أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يُصدقوهم فرأوا بأسنا .وجعلها في « الكشاف » جارية مجرى البيان والتفسير لقوله:{ فَمَا أغنى عَنْهُم} ،وما سلَكْتُه أنا أحسن ومَوقع الفاء يؤيده .
ولِما في ( لَمَّا ) من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله .وجواب ( لمّا ) جملة{ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلْمِ} وما عطف عليها .
واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِدداً ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين .وأنهاها صاحب « الكشاف » إلى ستّ ،ومال صاحب « الكَشف » إلى إحداها ،وأبو حيان إلى أُخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك .
والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على{ الَّذِينَ مِن قَبلِهم} وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد ،فالذين ( فَرحوا بما عندهم من العلم ) هم ( الذين جَاءتهم رُسُلهم بالبينات ) ،وهم الذين ( حَاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ،والذين رأوا بأس الله ،فما بنا إلا أن نُبين معنى{ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ} .
فالفَرَح هنا مكنّى به عن آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى:{ إذ قال له قومه لا تفرح}[ القصص: 76] أي بما أنت فيه مكنىًّ به هنا عن تمسكهم بما هم عليه ،فالمعنى: أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر .l وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أَهل الضلالة من أسلافهم .
قال مجاهد: قالوا لرسلهم: نحن أعلم منكم لن نُبعث ولن نُعذب اهـ .وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل .وقال السُدّي: فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم يعني فهو من قبيل قوله تعالى:{ قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}[ الأنعام: 148] .
وحاق بهم: أحاط ،يقال: حاق يحيق حيقا ،إذا أحاط ،وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مَفرجاً .
و{ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ} هو الاستئصال والعذاب .والمعنى: أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزؤوا بالعذاب ،أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم ،وفي الإتيان ب{ يستهزؤون} مُضارعاً إفادة لتكرر استهزائهم .