قوله:{ فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم} قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالى:{ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرِهم}[ النساء: 155] ،وقوله:{ فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات} في سورة النّساء ( 160 ) .
واللعن هو الإبعاد ،والمراد هنا الإبعادُ من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق .
{ وجَعلنا قلوبهم قاسية} قساوة القلب مجاز ،إذْ أصلها الصلابة والشدّة ،فاستعيرت لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر .وقد تقدّم في قوله تعالى:{ ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك}[ البقرة: 74] .وقرأ الجمهور:{ قاسية} بصيغة اسم الفاعل .وقرأ حمزة ،والكسائي ،وخلف:{ قَسِيَّة} فيكون بوزن فَعِيلة من قَسَا يَقْسو .
وجملة{ يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه} استئناف أو حال من ضمير{ لَعنّاهم} .والتحريف: الميل بالشيء إلى الحرف ،والحرف هو الجانب .وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه ؛فمن ذلك قولهم: السلوك ،والسيرة ؛والسعي ؛ومن ذلك قولهم: الصراط المستقيم ،وصراطاً سوياً ،وسواء السبيل ،وجادّة الطريق ،والطريقة الواضحة ،وسواء الطريق ؛وفي عكس ذلك قالوا: المراوغة ،والانحراف ،وقالوا: بنيَّات الطريق ،ويعْبُد الله على حرف ،ويشعِّبُ الأمور .وكذلك ما هنا ،أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها ،وهو تبديل معاني كتبهم السماوية .وهذا التحريف يكون غالباً بسوء التأويل اتّباعاً للهوى ،ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة ،قيل: ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم .وعن ابن عبّاس: ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل .وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى:{ من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه} في سورة النساء ( 46 ) .وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم .
وجملة{ ونسوا حظّاً} معطوفة على جملة{ يحرّفون} .والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالباً .وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد ،فإذا حصل مضى ،حتّى يُذكّره مُذكِّر .وهو وإن كان مراداً به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحاً للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى .
والحظّ النصيب ،وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ .وما ذكّروا به هو التّوراة .
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك: وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال ،والغرور بسوء التأويل ،والنسيان الناشىءُ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به .
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها .وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف ،فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها ،ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس: يجوز أن يقال: هو دين الله ،ولا يجوز أن يُقال: قاله الله .
وقوله:{ ولا تزال تطّلع على خائنة منهم} انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل{ لا تزال} يدلّ على استمرار ،لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال: يدوم اطّلاعك .فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر ،والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه ،أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم .
والاطّلاع افتعال من طَلع .والطلوع: الصعود .وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة ،إذ ليس فعله متعدّياً حتّى يصاغ له مطاوع ،فاطّلع بمنزلة تطّلع ،أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف .والمعنى: ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم .
والخائنة: الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة ،كالعاقبة ،والطاغية .ومنه{ يعلم خائنة الأعين}[ غافر: 19] .وأصْل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد ،ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن .وقيل:{ خائنة} صفة لمحذوف ،أي فرقة خائنة .
واستثنى قليلاً منهم جُبلوا على الوفاء ،وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب ،قال تعالى:{ وأنزَل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم}[ الأحزاب: 26] .وأمْره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق ،وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنّبيء صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدّينية ،فلا يعارض هذا قوله في براءة{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}[ التوبة: 29] لأنّ تلك أحكام التصرّفات العامّة ،فلا حاجة إلى القول بأنّ هذه الآية نسخت بآية براءة .