/م12
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي فبسب نقضهم ميثاقنا الذي أخذناه عليهم وواثقناهم به – ومنه الإيمان بمن نرسله إليهم من الرسل ونصرتهم وتعزيرهم – استحقوا لعنتنا والبعد من رحمتنا ، لأن نقض الميثاق قد دنس نفوسهم وأفسد فطرتهم ، وقسى قلوبهم ، حتى قتلوا الأنبياء بغير حق ، وافتروا على مريم وبهتوها وأهانوا ولدها الذي أرسله الله تعالى لهدايتهم وإصلاح ما فسد من أمرهم وحاولوا قتله ، وافتخروا بذلك بمجرد الشبهة ، فمعنى لعنهم وجعل قلوبهم قاسية أن نقض الميثاق وما ترتب عليه من المعاصي والكفر كان بحسب سنة الله تعالى في تأثير الأعمال في النفوس مبعدا لهم عن كل ما يستحقون به رحمه الله وفضله ، ومقسيا لقلوبهم حتى لم تعد تؤثر فيها حجة ولا موعظة ، فهذا معنى إسناد اللعنة وتقسية القلوب إليه تعالى ، وليس معناه ما يزعمه الجبرية من أنه شيء خلقه لله ابتداء وعاقبهم به ولم يكن مسببا عن أعمالهم الاختيارية التي هي علة لذلك ، ولا كما يفهمه بعض الجاهلين لسنن الله تعالى في الجزاء الإلهي ، إذ يظنون أنه من قبيل الجزاء الوضعي المرتب على مخالفة الشرائع والقوانين في الدنيا .وقد بينا مرارا أنه ليس كذلك ، وإنما هو من قبيل الأمراض والآلام المرتبة على مخالفة قوانين الطب ، وهذا أمر معقول في نفسه مطابق للواقع ولحكمة التكليف ، وجامع بين النصوص .
ولو خلق الله القسوة في قلوبهم ابتداء فلم تكن أثرا لأعمالهم الاختيارية السيئة لاستحال أن يذمهم بها ويعاقبهم عليها .قرأ حمزة والكسائي ( قسية ) بتشديد الياء على وزن فعلية ، وهو أبلغ في الوصف من ( قاسية ) وهي قراءة الباقين .ولأجل موافقة القراءتين كتب الكلمة في المصحف الإمام بغير ألف .وقيل إن قسية بمعنى رديئة فاسدة من قولهم:درهم قسي ، على وزن شقي أي فاسد مغشوش .وقد رد الزمخشري هذا المعنى إلى القسوة بمعنى الصلابة لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين فإذا غشا بإدخال بعض المعادن فيهما كالنحاس أفادهما ذلك قسوة وصلابة .
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} التحريف إمالة الشيء عن موضعه إلى أي جانب من جوانب ذلك الموضع ، مأخوذ من الحرف وهو الطرف والجانب .والكلم جمع كلمة وتطلق على اللفظ المفرد وهو ما اقتصر عليه النحاة ، وعلى الجملة المركبة ذات المعنى التام المفيد ، كقولك كلمة التوحيد .تحريف الكلم عن مواضعه يصدق بتحريف الألفاظ بالتقديم والتأخير والحذف والزيادة والنقصان ، وبتحريف المعاني بحمل الألفاظ على غير ما وضعت به .وقد اختار كثير من علمائنا الأعلام هذا المعنى في تفسير الآية وعللوه بأن التصرف في ألفاظ كتاب متواتر متعسر أو متعذر ، وسبب هذا الاختيار والتعليل عدم وقوف أولئك العلماء على تاريخ أهل الكتاب وعدم اطلاعهم على كتبهم وقياس تواترها على القرآن .
والتحقيق الذي عليه العلماء الذين عرفوا تاريخ القوم واطلعوا على كتبهم التي يسمونها التوراة وغيرها ( وكذا كتب النصارى ) هو أن التحريف اللفظي والمعنوي كلاهما واقع في تلك الكتب ما له من دافع .وأنها كتب غير متواترة .فالتوراة التي كتبها موسى عليه السلام وأخذ العهد والميثاق على بني إسرائيل بحفظها – كما هو مسطور في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع – قد فقدت قطعا باتفاق مؤرخي اليهود والنصارى ولم يكن عندهم نسخة سواها ولم يكن أحد يحفظها عن ظهر قلب كما حفظ المسلمون القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .وهذه الأسفار الخمسة التي ينسبونها إلى موسى فيها خبر كتابته التوراة وأخذه العهد عليهم بحفظها ، وهذا ليس منها قطعا ، وفيها خبر موته وكونه لم يقم بعده أحد مثله إلى ذلك الوقت أي الذي كتب فيه ما ذكر من سفر التثنية .وهذا نص قاطع في كون الكاتب كان بعد موسى بزمن يظهر أنه طويل ، وكون ما ذكر ليس من التوراة في شيء ، ومن المشهور عندهم أنها فقدت عند سبي البابليين لهم .
وفي هذه الأسفار ما لا يحصى من الكلم البابلي الدال على أنها كتبت بعد السبي ، فأين التواتر الذي يشترط فيه نقل الجم الغفير الذي يؤمن تواطؤهم على التبديل والتغيير في كل الطبقات بحيث لا ينقطع الإسناد في طبقة ما ؟ والمرجح عند محققي المؤرخين من الإفرنج أن هذه التوراة الموجودة كتبت بعد موسى ببضعة قرون ، والمشهور أن أول من كتب الأسفار المقدسة بعد السبي عزرا الكاهن في زمن ملك أرتحششتا الذي أذن له بذلك إذ أذن لبني إسرائيل بالعودة إلى بلادهم .وقد أوضحنا هذه المسألة في تفسير سورة آل عمران وسورة النساء ، وسنزيدها بيانا .
{ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال:( نسوا الكتاب ) – وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال:نسوا كتاب الله إذ أنزل عليهم ، ومرادهما الحظ منه أي نسوا طائفة من أصل الكتاب ، وروى ابن مبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود أنه قال في تفسير الآية:إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها .يعلل بذلك ما أفادته الآية من نسيانهم لبعض ما ذكرهم الله به من كتابه .وفسر النسيان بعض العلماء بترك العمل ، كأن هؤلاء استبعدوا نسيان شيء من أصل كتاب القوم وإضاعته ، لتوهمهم أنه كان متوترا .والحق أنهم أضاعوا كتابهم وفقدوه عندما أحرق البابليون هيكلهم وخربوا عاصمتهم ، وسبوا من أبقى عليه السيف منهم ، فلما عادت إليهم الحرية في الجملة جمعوا ما كانوا حفظوه من التوراة ووعوه بالعمل به ، أو ذكره في بعض مكتوباتهم لنحو الاستشهاد به ، ونسوا الباقي .
وقد حققنا هذا المعنى في تفسير الآية الثانية من آل عمران ، وكذا{ ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب} [ آل عمران:23] و[ النساء:44و 51] .ولعمري إن هذه الجملة ( فنسوا حظا ممن ذكروا به ) وتلك الجملة ( أوتوا نصيبا من الكتاب ) لمن أعظم معجزات القرآن التي أثبتها التاريخ لنا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة قرون ، ولم يكن يخطر على بال أحد من العرب في زمن البعثة وهم أميون أن اليهود فقدوا كتابهم الذي هو أصل دينهم ثم كتبه لهم كاتب منهم نشأ في السبي والأسر بين الوثنيين بعد عدة قرون ، فنقص منه وزاد فيه ، ولم تعرف المصادر التي جمع منها ما كتبه معرفة صحيحة .بل كان هذا مما خفي عن علماء المسلمين عدة قرون بعد انتشار العلم فيهم .
أثبت الله تعالى في هذه الآية أن اليهود يحرفون كلم كتابهم عن مواضعه ، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، وفي سورتي آل عمران والنساء{ أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب} [ آل عمران:23] [ والنساء:44 و51] وفي{ أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه} [ النساء:48] .ومفهوم قوله:( أوتوا نصيبا ) أنهم نسوا نصيبا آخر وهو ما صرح به هنا .وذهب بعض المفسرين إلى أن المنسي هو البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان صفاته ، وهو لا يصح لأنهم لو نسوها كلها لما صح قوله في علمائهم أنهم ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) وهو ما صرح به وأقسم عليه من آمن منهم .وحمله بعضهم على ترك العمل به ، وهو مجاز من إطلاق اللفظ وإرادة لازمه ، والأصل في الكلام الحقيقة وإنما يصار إلى المجاز عند امتناع إرادتها ، ولا امتناع هنا .
ومن دلائل إرادة الحقيقة آية ( أوتوا نصيبا من الكتاب ) فمعنى ما هنالك وما هنا أن أهل الكتاب الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم – ومثلهم من قبلهم فصاعدا إلى زمن السبي وخراب بيت المقدس الذي فقدت فيه التوراة ومن بعدهم إلى اليوم وإلى ما شاء الله – أوتوا نصيبا ونسوا نصيبا منه بسبب فقد الكتاب وعدم حفظهم له كله في الصدور .ثم إن الذي أوتوه منه وبقي لهم ، ما كانوا يعملون به كما يجب ولا يقيمون ما يعملون به منه كما ينبغي ، بل كانوا يحرفونه عن مواضعه باللي والتأويل ، على أنه وصل إليهم محرفا لفظه لأنه نقل من قراطيس وصحف متفرقة لا ثقة بأهلها ولا بضبط ما فيها .وسنذكر تتمة هذا البحث في الكلام على نسيان النصارى حظا مما ذكروا به .
{ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} الخائنة هنا الخيانة كما روي عن قتادة .والعرب تعبر بصيغة الفاعل عن المصدر أحيانا كما تعكس ، فاستعملت القائلة بمعنى القيلولة ، والخاطئة بمعنى الخطيئة .أو هي وصف لمحذوف إما مذكر والهاء للمبالغة كما قالوا راوية لكثير الرواية ، وداعية لمن تجرد للدعوة إلى الشيء ، وإما مؤنث بتقدير نفس أو فعلة أو فرقة خائبة ، والمعنى أنك أيها الرسول لا تزال تطلع من هؤلاء اليهود المجاورين لك على خيانة بعد خيانة ما داموا مجاورين أو معاملين لك في الحجاز ، فلا تحسبن أنك قد أمنت مكرهم وكيدهم بتأمينك إياهم على أنفسهم ، فإنهم قوم لا وفاء لهم ولا أمان ، وقد نقضوا عهد الله وميثاقه من قبل ، فكيف يرجى منهم الوفاء لك بعد ذلك النقض وما ترتب عليه من قساوة قلوبهم وقتلهم لأنبيائهم ؟
{ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} كعبد الله بن سلام وإخوانه الذين أسلموا فهؤلاء صادقون في إسلامهم لا يقصدون خيانة ولا خداعا{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فاعف عما سلف من هؤلاء القليل واصفح عن مسيئهم وعاملهم بالإحسان الذي يحبه الله تعالى ، وأنت الرسول أحق الناس بتحري ما يحبه الله ، وهذا رأي أبي مسلم .أو فاعف عما سلف من جميعهم واضرب عنه صفحا ، وإيثارا للإحسان والفضل ، على ما يقتضيه العدل ، قيل كان هذا أمرا مطلقا ثم نسخ بآية التوبة{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [ التوبة:29] الآية .وروي هذا عن قتادة .ويرده قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود قبل نزول التوبة ، وكون آية التوبة نزلت بقبول الجزية وهو يتفق مع العفو والصفح ، فإنهم بخيانتهم صاروا حربيين واستحقوا أن يقتلوا ، وقبول الجزية منهم يعد عفوا وصفحا عن قتلهم ، وإحسانا إليهم .وثم وجه آخر وهو أن الأمر بالعفو والصفح إنما هو عن الخيانات الشخصية لا عن نقض العهد الذي يصيرون به محاربين لا يؤمن جوارهم .وهذا أظهر من جعل الأمر بالعفو مقيدا بشرط محذوف تقديره إن تابوا وآمنوا وعاهدوا أو التزموا الجزية ، هذا ملخص ما يقال في رأي الجمهور .
ولولا أن نزول هذه السورة متأخر عما كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود من القتال وعن نزول سورة التوبة لقلت يحتمل أن يكون المراد هنا يهود بني النضير ( ومثلهم بنو قريظة ) بقرينة ما جاء قبل هذا السياق من خبر محاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم غدرا منهم وخيانة ، ويكون المراد بالعفو والصفح عندهم ترك قتلهم والرضاء منهم بما دون القتل بعد القدرة عليه وهذا هو الذي وقع .
ثبت في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رغب عند ما آوى إلى المدينة في مصالحة اليهود وموادعتهم ، فعقد العهد معهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا من يحاربه ، ولا يوالوا عليه عدوا له ، وأن يكونوا آمنين على أنفسهم وأموالهم وحريتهم في دينهم .وكان حول المدينة منهم ثلاث طوائف:بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة .فكان بنو قينقاع أول من غدر وتصدى لحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهرا ، لأنهم كانوا أشدهم بأسا ، فلما ظفر بهم وسأله عبد الله بن أبي رئيس المنافقين فيهم وهبهم له ، وكانوا حلفاء للخزرج ، وكان هو يتولاهم وينصرهم وينصر غيرهم من أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما استطاع ، وهذا ضرب من العفو والصفح .
وأما بنو النضير فنقضوا العهد أيضا وهموا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحل له قتالهم ، لكنه اختار السلم وأن يكتفي أمرهم بطردهم من جواره ، فبعث إليهم ( أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني بها وقد أجلتكم عشرا ، فمن وجدت بها بعد ذلك ضربت عنقه ) فأقاموا يتجهزون أياما .ثم ثناهم عن عزمهم عبد الله بن أبي إذ أرسل إليهم أن لا تخرجوا فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم فيموتون دونكم وتنصركم قريظة وحلفاؤكم من غطفان .وكان رئيسهم حيي بن أخطب شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي كان أطمعهم بقتله وحملهم على الغدر به ، فغره قول رئيس المنافقين ، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أننا لا نخرج فافعل ما بدا لك .وهذا إعلان للحرب .فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إليهم يحمل لواءه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .فلما انتهوا إليهم أقاموا على حصونهم يرمون بالنبل والحجارة ، وخانهم ابن أبي ولم تنصرهم قريظة وغطفان ، فلما اشتد عليهم الحصار رضوا بالخروج سالمين .وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قادرا على استئصالهم ولكنه اختار العفو والإحسان واكتفاء شرهم بإبعادهم عن المدينة ، فأنزلهم على أن يخرجوا منها بنفوسهم وذراريهم وما حملت الإبل إلا السلاح .وأجلاهم إلى خيبر .ولا شك أن هذا ضرب من ضروب العفو والإحسان عظيم .والظاهر أن الآية نزلت بعد ذلك كله لأنها من آخر ما نزل ، ولم يعاقب اليهود بعدها على الخيانة ولا غدر ، ولكنه أوصى بإجلائهم عن جزيرة العرب بعده .
ولما بين الله تعالى العبرة بنقض اليهود لميثاقهم وما كان من أمرهم ، أعقبه ببيان حال النصارى في ذلك فقال:{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} .