جملة:{ ثمانية أزواج} حال من{ من الأنعام}[ الأنعام: 142] .ذكر توطئة لتقسيم الأنعام إلى أربعة أصناف الّذي هو توطئة للردّ على المشركين لقوله:{ قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين} إلى قوله{ أم كنتم شهداء} أي أنشأ من الأنعام حمولة إلى آخره حالة كونها ثمانية أزواج .
والأزواج جمع زوج ،والزوج اسم لذات منضمَّة إلى غيرها على وجه الملازمة ،فالزّوج ثان لواحد ،وكلّ من ذيْنِك الاثنين يقال له: زوج ،باعتبار أنّه مضموم ،وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى:{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجَنَّة} في سورة البقرة ( 35 ) ،ويطلق الزوج غالباً على الذّكر والأنثى من بني آدم المتلازمين بعقدة نكاح ،وتوسّع في هذا الإطلاق فأطلق بالاستعارة على الذّكر والأنثى من الحيوان الّذي يتقارن ذكره وأنثاه مثل حمار الوحش وأتانه ،وذكر الحمام وأنثاه ،لشبهها بالزوجين من الإنسان .ويطلق الزّوج على الصنف من نوع كقوله تعالى:{ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} في سورة الرّعد ( 3 ) .وكلا الإطلاقين الأخيرين صالح للإرادة هنا لأنّ الإبل والبقر والضأن والمعز أصناف للأنعام ،ولأنّ كلّ ذلك منه ذكر وأنثى .إذ المعنى أنّ الله خلق من الأنعام ذكرها وأنثاها ،فالأزواج هنا أزواج الأصناف ،وليس المراد زوْجاً بعينه ،إذ لا تعرف بأعيانها ،فثمانية أزواج هي أربعة ذكور من أربعة أصناف وأربعُ إناث كذلك .
وقوله:{ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين} أُبدل{ اثنين} من قوله:{ ثمانية أزواج} قوله:{ اثنين}: بدلَ تفصيل ،والمراد: اثنين منها أي من الأزواج ،أي ذَكَرٌ وأنثى كلّ واحد منهما زوج للآخر ،وفائدة هذا التّفصيل التوصّل لذكر أقسام الذّكور والإناث توطئة للاستدلال الآتي في قوله:{ قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين} الآية .
وسُلك في التّفصيل طريق التّوزيع تمييزاً للأنواع المتقاربة ،فإنّ الضأن والمعز متقاربان ،وكلاهما يذبح ،والإبلَ والبقرَ متقاربة ،والإبلُ تنحر ،والبقر تذبح وتُنحر أيضاً .ومن البقر صنف له سنام فهو أشبه بالإبل ويوجد في بلاد فارس ودخل بلاد العرب وهو الجاموس ،والبقرُ العربي لا سنام له وثَورها يسمّى الفريش .
ولمّا كانوا قد حرّموا في الجاهليّة بعض الغنم ،ومنها ما يسمّى بالوصيلة كما تقدّم ،وبعض الإبل كالبَحيرة والوصيلة أيضاً ،ولم يحرّموا بعض المعز ولا شيئاً من البقر ،ناسب أن يؤتى بهذا التّقسيم قبل الاستدلال تمهيداً لتحكّمهم إذْ حرّموا بعض أفراد من أنواع ،ولم يحرّموا بعضاً من أنواع أخرى ،وأسباب التّحريم المزعومة تتأتى في كلّ نوع فهذا إبطال إجمالي لما شرعوه وأنَّه ليس من دين الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
وهذا الاستدلال يسمى في علم المناظرة والبحث بالتحكّم .
والضأن بالهمز اسم جمع للغَنم لا واحد له من لفظه ،ومفرد الضأن شاة وجمعها شاءٌ .
وقيل هو جمع ضَائن .والضأن نوع من الأنعام ذواتتِ الظلف له صوف .والمعز اسم جمع مفرده ماعِز ،وهو نوع من الأنعام شبيه بالضأن من ذوات الظلف له شعر مستطيل ،ويقال: مَعْز بسكون العين ومَعز بفتح العين وبالأول قرأ نافع .وعاصم ،وحمزة ،والكسائي ،وأبو جعفر ،وخلف .وقرأ بالثّاني الباقون .
وبعد أن تمّ ذكر المنّة والتّمهيد للحجّة ،غيرّ أسلوب الكلام ،فابتدىء بخطاب الرّسول عليه الصّلاة والسلام بأن يجادل المشركين ويظهر افتراءهم على الله فيما زعموه من تحريم ما ابتدعوا تحريمه من أنواع وأصناف الأنعام على من عيّنوه من النّاس بقوله:{ قل ءآلذكرين حرم} الآيات .فهذا الكلام ردّ على المشركين ،لإبطال ما شرعوه بقرينة قوله:{ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} وقوله:{ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا} الآية .فقوله: قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين إلى آخرها في الموضعين ،اعتراض بعد قوله:{ ومن المعز اثنين} وقوله:{ ومن البقر اثنين} .وضمير:{ حرّم} عائد إلى اسم الله في قوله:{ كلوا مما رزقكم الله}[ الأنعام: 142] ،أو في قوله:{ وحرموا ما رزقهم الله}[ الأنعام: 140] الآية .وفي تكرير الاستفهام مرّتين تعريض بالتّخطئة ،فالتّوبيخ والتّقريع الّذي يعقبه التّصريح به في قوله:{ إن كنتم صادقين} وقوله:{ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً} الآية .فلا تردّد في أنّ المقصود من قوله:{ قل ءآلذكرين حرم} في الموضعين إبطال تحريم ما حرّم المشركون أكله ،ونفي نسبة ذلك التّحريم إلى الله تعالى .وإنَّما النظر في طريق استفادة هذا المقصود من نظم الكلام .وهو من المعضلات .