عطف قصة على قصة ،وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم ،فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع ،والتقطيع التفريق ،فيكون محموداً مثل{ وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطاً}[ الأعراف: 160] ،ويكون مذموماً ،فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع .
فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض .
و{ أمماً} جمع أمّة بمعنى الجماعة ،فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعاً مذموماً أي تفريقاً بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى أسر بني إسرائيل عندما غزا مملكة إسرائيل ( شلمناصرُ ) مَلك بابل .ونقلهم إلى جبال انشور وأرض بابل سنة 721 قبل الميلاد .ثم أسر ( بُخْتنصّر ) مملكة يهوذا وملكها سنة 578 قبل الميلاد ،ونقل اليهود من ( أرشليم ) ولم يبق إلاّ الفقراء والعجّز .ثم عادوا إلى أرشليم سنة 530 ،وَبَنوْا البيت المقدس إلى أن أجلاهم ( طيطوس ) الروماني ،وخرّب بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد ،فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي سبأ .
ووصف الأمم بأنهم{ منهم الصالحون} إيذان بأن التفريق شمل المذنبين وغيرهم ،وأن الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلّوا بينها ،كما دل عليه قوله:{ وبلوناهم بالحسنات والسيّئات} .
وشمل قوله:{ ومنهم دون ذلك} كل من لم يكن صالحاً على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم .
و{ الصالحون} هم المتمسكون بشريعة موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون بعيسى بعد بعثته ،وأن بني إسرائيل كانوا بعد بعثة عيسى غير صالحين إلاّ قليلاً منهم: الذين آمنوا به ،وزادوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إيمانهم به ،بُعداً عن الصلاح إلاّ نفراً قليلاً منهم مثل عبد لله بن سَلام ،ومخيريق .
وانتصب{ دونَ ذلك} على الظرفية وصفاً لمحذوف دل عليه قوله:{ منهم} أي ومنهم فريق دون ذلك ،ويجوز أن تكون ( مِن ) بمعنى بعض اسماً عند من يجوّز ذلك ،فهي مبتدأ ،و{ دون} خبر عنه .
ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك بابل ،وإنهم كانوا في مدة إقامتهم ببابل{ منهم الصالحون} مثل ( دانيال ) وغيره ،ومنهم دون ذلك ،لأن التقسيم بمِنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين .
وقوله:{ وبلوناهم بالحسنات والسيئات} أي أظهرنا مختلف حال بني إسرائيل في الصبر والشكر ،أو في الجزع والكفر ،بسبب الحسنات والسيئات ،فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تَحسن والتي تَسوء ،كما تقدم في قوله:{ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئةٌ يطيّروا بموسى ومن معه}[ الأعراف: 131] وعلى هذا يكون الحسنات والسيئات تفصيلاً للبلوى ،فالحسنات والسيئات من فعل الله تعالى ،أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم ،توزيعاً لحال الضمير المنصوب في قوله:{ بلوناهم} .
وجملة:{ لعلهم يرجعون} استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات ،أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك ،على حسب الوجهين المتقدمين .
والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان ،وهو معنى التوبة .
هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى{ قَطّعناهم} .
ويجوز عندي أن يكون قوله:{ وقطعناهم في الأرض أمماً} ،عوداً إلى أخبار المنن عليهم ،فيكون كالبناء على قوله:{ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً}[ الأعراف: 160] ،فيكون تقطيعاً محموداً ،والمراد بالأرض: أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها ،فيكون ذكر الأرض هنا دون آية{ وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً}[ الأعراف: 160] للدلالة على أنهم عمروها كلها ،ويكون قوله:{ منهم الصالحون} إنصافاً لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة ،وقوله:{ وبلوناهم} إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم .