عُطفت جملة{ ولو أن أهل القرى} على جملة:{ وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء}[ الأعراف: 94] أي: ما أرسلنا في قرية نبيئاً فكذبه أهلها إلاّ نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم ،ولو أن أهل تلك القرى المُهْلَكَةِ آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة ،أي: ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم .
وشرط ( لو ) الامتناعية يحصل في الزمن الماضي ،ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف ( أنّ ) المفيد للتأكيد والمصدرية ،وكان خبر ( أنّ ) فعلاً ماضياً توفر معنى المضي في جملة الشرط .والمعنى: لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات .
والتقْوى: هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان .
والتعريف في{ القرى} تعريف العهد ،فإضافة{ أهل} إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه ،وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله:{ وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء}[ الأعراف: 94] الآية كما تقدم ،وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ،وتعريض ببشارة أهل القُرى الذين يؤمنون كأهل المدينة ،وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة ،وقيل ،إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى ،وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط ،وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجُحفة ،والجُحفة يومئذٍ بلاد شرك .
والفتح: إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان ،يقال: فتح الباب وفتح البيت ،وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع ،وأصله فتح للبيت ،وكذلك قوله هنا:{ لفتحنا عليهم بركات} وقولُه:{ ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها}[ فاطر: 2] ،ويقال: فتح كوة ،أي: جعلها فتحة ،والفتح هنا استعارة للتمكين ،كما تقدم في قوله تعالى:{ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} في سورة الأنعام ( 44 ) .
وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه ،فهنا استعارتان مكنية وتبعية ،وقرأ ابن عامر:{ لفتّحنا} بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة .
والبركات: جمع بركة ،والمقصود من الجمع تعددها ،باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة .وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى:{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك} في سورة الأنعام ( 92 ) .وتقدم أيضاً في قوله تعالى:{ إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركاً} في سورة آل عمران ( 96 ) .وتقدم أيضاً في قوله تعالى:{ تَبارك الله رب العالمين} في هذه السورة ( 54 ) ،وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة ،ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ الحسنة} بصيغة الإفراد في قوله:{ مكان السيئة الحسنة} [ الأعراف: 95] وفي جانب المؤمنين بالبركات مجموعة .
وقوله:{ من السماء والأرض} مراد به حقيقته ،لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئاً من الأرض ،وذلك معظم المنافع ،أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة .
وقوله:{ ولكن كذبوا} استثناء لنقيض شرط ( لو ) فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي .
وجملة:{ فأخذناهم} متسببة على جملة:{ ولكن كذبوا} وهو مثل نتيجة القياس ،لأنه مساوي نقيضِ التالي ،لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم .
وتقدم معنى الأخذ آنفاً في قوله تعالى:{ فأخذناهم بغتة}[ الأعراف: 95] ،والمراد به أخذ الاستئصال .
والباء للسببية أي بسبب ما كسبوه من الكفر والعصيان .