قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة .وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح .
ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجاً عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به .
فكَسْر الهمزة على عطف الجملة على جملة{ أُوحي إليَّ}[ الجن: 1] ،والتقدير: وقل إِنه لما قام عبد الله يدعوه لأن همزة ( إِنَّ ) إذا وقعت في محكي بالقول تكسر ،ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونُقَل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله:{ وأن المساجد لله}[ الجن: 18] .
وأما الفتح فعلى اعتباره معطوفاً على جملة{ أنه استمع نفر}[ الجن: 1] ،أيْ وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله ،أي أوحى الله إليَّ اقتراب المشركين من أن يكونوا لُبَداً على عبد الله لما قام يدعو ربَّه .
وضمير{ إنه} ضمير الشأن وجملة{ لما قام عبد الله} إلى آخرها خبره .
وضمير{ كادوا يكونون} عائدان إلى المشركين المنبىء عنهم المقام غيبة وخطاباً ابتداء من قوله:{ وأن لو استقاموا على الطريقة}[ الجن: 16] إلى قوله:{ فلا تدعوا مع الله أحداً}[ الجن: 18] .
و{ عبد الله} هو محمد صلى الله عليه وسلم وضع الاسم الظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمتَ تدعو الله كادوا يكونون عليك ،أو لما قمتُ أدعو الله ،كادوا يكونون عليَّ .ولكن عدل إلى الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صلى الله عليه وسلم بوصف{ عبد الله} لما في هذه الإِضافة من التشريف مع وصف{ عبدِ} كما تقدم غير مرة منها عند قوله:{ سبحان الذي أسرى بعبده}[ الإسراء: 1] .
{ ولِبَداً} بكسر اللام وفتح الموحدة اسم جمع: لِبْدة ،وهي ما تلبد بعضه على بعض ،ومنه لِبْدَة الأسد للشعر المتراكم في رقبته .
والكلام على التشبيه ،أي كاد المشركون يكونون مثل اللَبد متراصين مقتربين منه يستمعون قراءته ودعوته إلى توحيد الله .وهو التفاف غيظ وغضب وهممٍ بالأذى كما يقال: تأَلبوا عليه .
ومعنى{ قام}: اجتهد في الدعوة إلى الله ،كقوله تعالى:{ إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السماوات والأرض} في سورة الكهف ( 14 ) ،وقال النابغة:
بأن حِصنا وحيّاً من بني أسد *** قَاموا فقالوا حمانا غير مقروب
وقد تقدم عند قوله تعالى:{ ويقيمون الصلاة} في أول سورة البقرة ( 3 ) .
ومعنى قيام النبي إعلانه بالدعوة وظهور دعوته قال جَزْءٌ بنُ كليب الفقعسي:
فلا تبغينها يا بنَ كُوز فإنه *** غذَا الناسُ مُذ قام النبي الجواريا
أي قام يعبدُ الله وحده ،كما دل عليه بيانه بقوله بعده: قال{ إنما أدعو ربّي ولا أشرك به أحداً} ،فهم لما لم يعتادوا دعاء غير الأصنام تجمعوا لهذا الحدث العظيم عليهم وهو دعاء محمد صلى الله عليه وسلم لله تعالى .