إضراب انتقالي ،وهو للترقي من مضمون{ يُنَبَّأُ الإِنسان يومئذٍ بما قدم وأخّر}[ القيامة: 13] إلى الإِخبار بأن الكافر يَعلَم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ،إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال:{ يا ليتني لم أوتَ كتابِيَهْ ولم أدر ما حِسَابيهْ}[ الحاقة: 25 ،26] ،{ ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً}[ الكهف: 49] .وقال تعالى:{ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}[ الإسراء: 14] .
ونظم قوله:{ بل الإِنسان على نفسه بصيرة} صالح لإِفادة معنيين:
أولهما أن يكون{ بصيرة} بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون{ بصيرة} خبراً عن{ الإنسان} .و{ على نفسه} متعلقاً ب{ بصيرة} ،أي الإِنسان بصيرٌ بنفسه .وعُدّي بحرف{ على} لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى:{ كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} .وهاء{ بصيرة} تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسَّابة ،أي الإِنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذٍ .
والمعنى الثاني: أن يكونَ{ بصيرة} مبتدأ ثانياً ،والمراد به قرين الإِنسان من الحفظة وعلى نفسه خبرَ المبتدأ الثاني مقدماً عليه ،ومجموعُ الجملة خبراً عن{ الإنسان} ،و{ بصيرة} حينئذٍ يحتمل أن يكون بمعنى بصير ،أي مبصر والهاء للمبالغة ،كما تقدم في المعنى الأول ،وتكون تعدية{ بصيرة} ب{ على} لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول .
ويحتمل أن تكون{ بصيرة} صفة لموصوف محذوف ،تقديرة: حجة بصيرة ،وتكون{ بصيرة} مجازاً في كونها بينة كقوله تعالى:{ قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ ربّ السماوات والأرض بصائر}[ الإسراء: 102] ومنه قوله تعالى:{ وآتينا ثمودَ الناقة مبصرة}[ الإسراء: 59] والتأنيثُ لتأنيث المَوصوف .
وقد جرت هذه الجملة مجرى المثل لإِيجازها ووفرة معانيها .