هذا الكلام متضمن لوجوه من المكر:
أحدها:قولهن{ امرأة العزيز تراود فتاها} ولم يسموها باسمها ، بل ذكروها بالوصف الذي ينادى عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل ، فصدور الفاحشة منذات الزوج أقبح من صدورها ممن لا زوج لها .
الثاني:أن زوجها عزيز مصر ، ورئيسها ، وكبيرها . ذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها .
الثالث:أن الذي تراوده مملوك لا حر ، وذلك أبلغ في القبح .
الرابع:أنه فتاها الذي هو في بيتها ، وتحت كنفها . فحكمه حكم أهل البيت . بخلاف من تطلب ذلك من الأجنبي البعيد .
والخامس:أنها هي المراودة الطالبة .
السادس:أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها .
السابع:أن في ضمن هذا:أنه أعف منها وأبر ، وأوفى ، حيث كانت هي المراودة الطالبة ، وهو الممتنع ، عفافا وكرما وحياء ، وهذا غاية الذم لها .
الثامن:أنهن أتين بفعل المراودة ، بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار .
والوقوع حالا واستقبالا ، وأن هذا شأنها ، ولم يقلن:راودت فتاها . وفرق بين قولك ، فلان أضاف ضيفا ، وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام ، ويحمل الكل فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته .
التاسع:قولهن:{ إنا لنراها في ضلال مبين} أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح ، فنسبن الاستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا ، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك ، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور ، وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه ، ولا يحسن معاونتها عليه .
العاشر:أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط ، والطلب المفرط ، فلم تقتصد في حبها ، ولا في طلبها:
أما العشق فقولهن:{ قد شغفها حبا} أي وصل حبه إلى شغاف قلبها .
وأما الطلب المفرط فقولهن:{ تراود فتاها} والمراودة:الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق ، وشدة الحرص على الفاحشة .
فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه ، فهيأت لهن متكأ ، ثم أرسلت إليهن ، فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن ، وقيل:إنها جملته ، وألبسته أحسن ما تقدر عليه ، وأخرجته عليهن فجأة . فلم يرعهن إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة ، فراعهن ذلك المنظر البهي ، وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلن ، فدهشن حتى قطعن أيديهن ، وهن لا يشعرن .
وقد قيل:إنهن أبن أيديهن ، ولكن الظاهر خلاف ذلك ، وإنما تقطيعهن أيديهن:جرحها ، وشقها بالمدى ، لدهشهن بما رأين ، فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي ، وكانت هذه في النساء غاية في المكر .