شبه سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ؛ لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح ، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع . وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون:الكلمة الطيبة:هي شهادة أن لا إله إلا الله ، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة ، الظاهرة والباطنة . فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة .
وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه قال:كلمة طيبة:شهادة أن لا إله إلا الله ، كشجرة طيبة:وهو المؤمن ، أصلها ثابت قول:لا إله إلا الله في قلب المؤمن{ وفرعها في السماء} يقول:يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء .
وقال الربيع بن أنس:كلمة طيبة:هذا مثل الإيمان ، فإن الإيمان الشجرة الطيبة ، وأصلها الثابت الذي لا يزول:الإخلاص فيه ، وفرعه في السماء ، خشية الله .
والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن . فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل ، الباسقة الفرع في السماء ، علوا ، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين .
وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء ، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت ، بحسب ثباتها في القلب ، ومحبة القلب لها ، وإخلاصه فيها ، ومعرفته بحقيقتها ، وقيامه بحقوقها ، ومراعاتها حق رعايتها ، فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها ، واتصف قلبه بها ، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها ، فعرف حقيقة إلهية التي يثبتها قلبه لله ، ويشهد بها لسانه ، وتصدقها جوارحه ، ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات ، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا . فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت ، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى .
وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلما كثيرا طيبا ، يقارنه عمل صالح ، فيرفع العمل الصالح إلى الكلم الطيب ، كما قال تعالى:{ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}
[ فاطر:10] . فأخبر سبحانه ، أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب . وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت .
والمقصود:أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا ، متصفا بموجبها ، قائما قلبه ولسانه وجوارحه ، بشهادته ، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه ، وفروعها متصلة بالسماء ، وهي مخرجة ثمرتها كل وقت .
ومن السلف من قال:إن الشجرة الطيبة هي النخلة . ويدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما «الصحيح » .
ومنهم من قال:هي المؤمن نفسه ، كما قال محمد بن سعد:حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله:{ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة} يعني بالشجرة الطيبة:المؤمن ، ويعني بالأصل الثابت في الأرض ، والفرع في السماء ، يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم ، فيبلغ عمله وقوله السماء ، وهو في الأرض .
وقال عطية العوفي في قوله:{ ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة} قال:ذلك مثل المؤمن:لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله .
وقال الربيع بن أنس:أصلها ثابت وفرعها في السماء ، قال:ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له ، أصلها ثابت قال:أصل عمله ثابت في الأرض ، وفرعها في السماء ، قال:ذكره في السماء . ولا اختلاف بين القولين .
والمقصود بالمثل:المؤمن ، والنخلة مشبهة به ، وهو مشبه بها ، وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك .
ومن قال من السلف:إنها شجرة في الجنة ، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة .
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ، ويقتضيه علم الرب الذي تكلم به ، وحكمته سبحانه .
فمن ذلك:أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر ، فكذلك
شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به ، فعروقها:العلم والمعرفة واليقين وساقها:الإخلاص ، وفروعها:الأعمال ، وثمرتها:ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة ، والصفات الممدوحة ، والأخلاق الزكية ، والسحت الصالح والهدى والدل المرضي ، فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور .
فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به ، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه ، وأخبرت به عنه رسله ، والإخلاص قائم في القلب ، والأعمال موافقة للأمر ، والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها:
علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء .
وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة ، التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .
ومنها:أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها ، فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب ، إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح ، والعود بالتذكر على التفكر ، والتفكر على التذكر ، وإلا أوشك أن تيبس .
وفي «مسند الإمام أحمد » من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب ، فجددوا أيمانكم » .
وبالجملة:فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك .
ومن هاهنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات ، ومن عظيم رحمته ، وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده:أن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم .
ومنها:أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ، ليس من جنسه ، فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع ، واستوى وتم نباته ، وكان أوفر لثمرته وأطيب وأذكى ، وإن تركه أوشك أن يغلب على الغراس والزرع ، يكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته .
ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به ، فإنه يفوته ربح كبير . وهو لا يشعر .
فالمؤمن دائما سعيه في شيئين:سقي هذه الشجرة ، وتنقية ما حولها ، فبسقيها تبقى وتدوم ، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم . والله المستعان وعليه التكلان .
فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم . ولعلها قطرة من بحر ، بحسب أذهاننا الوقفة ، وقلوبنا المخطئة ، وعلومنا القاصرة ، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار ، وإلا فلو طهرت منا القلوب ، وصفت الأذهان ، وذكت النفوس ، وخلصت الأعمال ، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره ، وحكمه ما تضمحل عنده العلوم ، وتتلاشى عنده معارف الخلق .
وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم ، وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل ، والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ، ويختص من يشاء برحمته .