روى قيس عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته ، و إن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ، ثم قرأ:{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء} [ الطور:21] قال:«ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين » .
وذكر ابن مردويه في «تفسيره » من حديث شريك ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه - قال شريك:أظنه حكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا دخل الرجل الجنة سال عن أبويه وزوجته وولده ؟ فيقال:إنهم لم يبلغوا درجتك ، أو عملك . فيقول:يا رب قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بالإلحاق بهم » ، ثم تلا ابن عباس رضي الله عنه{ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان} إلى آخر الآية .
و قد اختلف المفسرون في «الذرية » في هذه الآية ، هل المراد بها الصغار أو الكبار أو النوعان ؟ على ثلاثة أقوال . واختلافهم مبني على أن قوله:{ بإيمان} حال من الذرية التابعين أو المؤمنين المتبوعين .
فقالت طائفة:المعنى:والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم في إيمانهم فأتوا من الإيمان بمثل ما أتوا به وألحقناهم بهم في الدرجات .
قالوا:ويدل على هذا قراءة من قرأ:{ واتبعتم ذريتهم} فجعل الفعل في الإتباع لهم .
قالوا:و قد أطلق الله سبحانه الذرية على الكبار ، كما قال:{ ومن ذريته داود وسليمان} [ الأنعام:84] وقال:{ ذرية من حملنا مع نوح} [ الإسراء:3] وقال:{ وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون} [ الأعراف:173] وهذا قول لكبار العقلاء قالوا:ويدل على ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه يرفعه «إن الله يرفع ذرية المؤمن إلى درجته وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه » ، فهذا يدل على أنهم دخلوا الجنة بأعمالهم ، ولكن لم يكن لهم أعمال يبلغوا بها درجة آبائهم . فبلغهم إياها ، و إن تقاصر عملهم عنها . قالوا:وأيضا فالإيمان هو القول والعمل والنية . وهذا إنما يمكن من الكبار ، وعلى هذا فيكون المعنى:أن الله سبحانه يجمع ذرية المؤمن إليه إذا أتوا من الإيمان بمثل إيمانه ، إذ هذا حقيقة التبعية ، و إن كانوا دونه في الإيمان ، رفعهم الله إلى درجته إقرارا لعينه ، و تكميلا لنعيمه . وهذا كما إن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم معه في الدرجة تبعا ، وإن لم يبلغوا تلك الدرجة بأعمالهن .
وقالت طائفة أخرى:الذرية هاهنا الصغار . والمعنى:والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم في إيمان الآباء . والذرية تتبع الآباء . وإن كانوا صغارا في الإيمان وأحكامه من الميراث ، والدية والصلاة عليهم ، والدفن في قبور المسلمين ، وغير ذلك ، إلا فيما كان من أحكام البالغين .
ويكون قوله:{ بإيمان} على هذا في موضع نصب على الحال من المفعولين .
أي:وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان الآباء .
قالوا:يدل على صحة هذا القول:أن البالغين لهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب ، فإنهم مستقلون بأنفسهم ، ليسوا تابعين للآباء في شيء من أحكام الدنيا ، ولا أحكام الثواب والعقاب ، لاستقلالهم بأنفسهم . ولو كان المراد بالذرية البالغين لكن أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم ، ولكان أولاد التابعين البالغون كلهم في درجة آبائهم ، وهلم جرا إلى يوم القيامة . فيكون الآخرون في درجة السابقين .
قالوا:و يدل عليه أيضا:أنه سبحانه جعلهم معهم تبعا في الدرجة . كما جعلهم تبعا معهم في الإيمان . ولو كانوا بالغين لم يكن إيمانهم تبعا ، بل إيمان استقلال .
قالوا:ويدل عليه أن الله سبحانه وتعالى جعل المنازل في الجنة بحسب الأعمال في حق المستقلين . وأما الإتباع فإن الله سبحانه وتعالى يرفعهم إلى درجة أهليهم . وإن لم يكن لهم أعمال . كما تقدم .
وأيضا:فالحور العين الخدم في درجة أهليهم ، وإن لم يكن لهم عمل ، بخلاف المكلفين البالغين . فإنهم يرفعون إلى حيث بلغت بهم أعمالهم .
وقالت فرقة - منهم الواحدي:الوجه أن تحمل الذرية الصغار والكبار . لأن الكبير يتبع الأب بإيمان نفسه ، والصغير يتبع الأب بإيمان الأب .
قالوا:والذرية تقع على الصغير والكبير ، والواحد والكثير ، والابن والأب ، كما قال تعالى:{ وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} [ يس:41] .
أي آباءهم . والإيمان يقع على الإيمان التبعي وعلى الاختياري الكسبي . فمن وقوعه على التبعي قوله:{ فتحرير رقبة مؤمنة} [ النساء:92] فلو أعتق صغيرا جاز .
قالوا:وأقوال السلف تدل على هذا . فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه:إن الله يرفع ذرية المؤمنين في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقربهم عيونهم ، ثم قرأ هذه الآية . وقال ابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية:الرجل يكون له القدم ، و يكون له الذرية ، فيدخل الجنة ، فيرفعون إليه ، لتقر بهم عينه ، وإن لم يبلغوا ذلك .
وقال أبو مجلز:يجمعهم الله له ، كما كان يحب إن يجتمعوا في الدنيا .
وقال الشعبي أدخل الله الذرية بعمل الآباء الجنة . وقال الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنه:إن كان الآباء أرفع درجة من الأبناء رفع الله الأبناء إلى الآباء . وإن كان الأبناء أرفع درجة من الآباء رفع الله الآباء إلى الأبناء . وقال إبراهيم:أعطوا مثل أجور آبائهم ولم ينقص الآباء من أجورهم شيئا .
قال:ويدل على صحة هذا القول:أن القراءتين كالآيتين ، فمن قرأ{ واتبعتهم ذريتهم} فهذا من حق البالغين الذين تصح نسبة الفعل إليهم ، كما قال تعالى:{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان} [ التوبة:100] ومن قرأ:{ واتبعتهم ذريتهم} [ الطور:21] فهذا في حق الصغار الذين أتبعهم الله إياهم في الإيمان حكما . فدلت القراءتان على النوعين .
قلت:واختصاص «الذرية » هاهنا بالصغار أظهر ، لئلا يلزم استواء المتأخرين والسابقين في الدرجات . ولا يلزم مثل هذا في الصغار ، فإن أطفال كل رجل وذريته معه في درجته . والله أعلم .