هذه بعض من نعم أهل الجنّة المادية والمعنوية ،إلاّ أنّهم لا يكتفون بهذه النعم فحسب ،وإنّما تضاف إليها نعم ومواهب معنوية ومادية أخر !( والذين آمنوا واتّبعتهم ذريّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) !.
وهذه نعمة بنفسها أيضاً أن يرى الإنسان ذريّته في الجنّة ويلتذّ برؤيتهم دون أن ينقص من عمله شيء أبداً .
ويفهم من تعبير الآية أنّ المراد من الذرية هم الأبناء البالغون الذين يسيرون في خطّ الآباء المؤمنين ويتّبعون منهجهم .
فمثل هؤلاء الأبناء وهذه الذريّة إذا كان في عملهم نقص وتقصير فإنّ الله سبحانه يتجاوز عنهم لأجل آبائهم الصالحين ،ويرتفع مقامهم عندئذ فيبلغون درجة آبائهم ،وهذه المثوبة موهبة للآباء والأبناء{[4753]} !.
إلاّ أنّ جماعة من المفسّرين يعتقدون أنّ «الذريّة » هنا تشمل الأبناء الكبار والصغار جميعاً ..غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع ظاهر الآية ،لأنّ الاتّباع بإيمان دليل على وصولهم مرحلة البلوغ أو مقاربتهم لها .
إلاّ أن يقال أنّ الأطفال يصلون في يوم القيامة مرحلة البلوغ ويمتحنون فمتى نجحوا في الامتحان التحقوا بالآباء ،كما جاء هذا المعنى في الكافي إذ ورد فيه أنّه سئل الإمام عن أطفال المؤمنين فقال ( عليه السلام ): «إذا كان يوم القيامة جمعهم الله ويشعل ناراً فيأمرهم أن يلقوا أنفسهم في النار فمن ألقى نفسه سلم وكان سعيداً وجعل الله النار عليه برداً وسلاماً ومن امتنع حرم من لطف الله »{[4754]} .
إلاّ أنّ هذا الحديث إضافةً إلى ضعف سنده يواجه إشكالات ومؤاخذات في المتن أيضاً ..وليس هنا مجال لبيانها وشرحها .
وبالطبع فإنّه لا مانع أن يُلحق الأطفال بالآباء ويكونوا معهم في الجنّة ..إلاّ أنّ الكلام هو هل الآية الآنفة ناظرة إلى هذا المطلب أم لا ؟وقد قلنا إنّ التعبير ب ( اتّبعتهم ذريّتهم بإيمان ) ظاهره أنّ المقصود هو الكبار .
وعلى كلّ حالوحيث أنّ ارتقاء الأبناء إلى درجة الآباء يمكن أن يوجد هذا التوهّم أنّه ينقص من أعمال الآباء ويُعطى للأبناء فإنّ الآية تعقّب بالقول: ( وما ألتناهم{[4755]} من عملهم من شيء ) .
وينقل ابن عبّاس عن النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال: «إذا دخل الرجل الجنّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له إنّهم لم يبلغوا درجتَكَ وعملك .فيقول: ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به »{[4756]} .
ممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ القرآن يضيف في نهاية الآية: ( كلّ امرئ بما كسب رهين ) .
فلا ينبغي التعجّب من عدم إنقاص أعمال المتّقين ،لأنّ هذه الأعمال مع الإنسان حيثما كان ،وإذا أراد الله أن يُلحق أبناء المتّقين بهم تفضّلا منه ورحمة ،فلا يعني ذلك أنّه سينقص من ثواب أعمالهم أي شيء !
وقال بعض المفسّرين: إنّ كلمة «رهين » هنا معناها مطلق ،فكلّ إنسان مرهون بأعماله ،سواءً أكانت صالحةً أم طالحة ،ولا ينقص من جزاء أعماله شيء .
ولكن مع ملاحظة أنّ هذا التعبير لا يتناسب والأعمال الصالحة ،فإنّ بعض المفسّرين قالوا: إنّ «كلّ امرئ » هنا إشارة إلى أصحاب الأعمال السيّئة !وإنّ كلّ إنسان مرهون بأعماله السيّئة فهو حبيسها وأسيرها .
ويستدلّون أحياناً بالآيتين ( 38 ) و39 ) من سورة المدثر ..( كلّ نفس بما كسبت رهينة إلاّ أصحاب اليمين ) .
غير أنّ هذا التّفسير مع الالتفات إلى سياق الآيات السابقة واللاحقةالتي تتكلّم في شأن المتّقين وليس فيها كلام على المشركين والمجرمينيبدو غير مناسب !
وقبال هذين التّفسيرين الذين يبدو كلّ منهما غير مناسبمن بعض الوجوههناك تفسير ثالث ينسجم مع صدر الآية والآيات السابقة والآيات اللاحقة ،وهو أنّ من معاني «الرهن » في اللغة «الملازمة » ،وإن كان معروفاً أنّه الوثيقة في مقابل الدين ،إلاّ أنّه يستفاد من كلمات أهل اللغة أنّ الرهن من معاينة الدوام والملازمة{[4757]} .
بل هناك من يصرّح بأنّ المعنى الأصلي للرهن هو الدوام والثبوت ،ويعدّ الرهن بمعنى الوثيقة من اصطلاحات الفقهاء ،لذلك فإنّه حين يقال «نعمة راهنة » فمعناها أنّها ثابتة ومستقرّة{[4758]} .
ويقول أمير المؤمنين في شأن الأمم السالفة: «هاهم رهائن القبور ومضامين اللحود »{[4759]} .
فيكون معنى ( كلّ امرئ بما كسب رهين ) أنّ أعمال كلّ إنسان ملازمة له ولا تنفصل عنه أبداً ،سواءً كانت صالحة أو طالحة ،ولذلك فإنّ المتّقين في الجنّة رهينو أعمالهم ،وإذا كان أبناؤهم وذريّاتهم معهم ،فلا يعني ذلك أنّ أعمالهم ينقص منها شيء أبداً .
وأمّا في شأن الآية ( 39 ) من سورة المدثر التي تستثني أصحاب اليمين ممّا سبق ،فيمكن أن تكون إشارةً إلى أنّهم مشمولون بألطاف لا حدّ لها حتّى كأنّ أعمالهم لا أثر لها بالقياس إلى ألطاف الله{[4760]} .
وعلى كلّ حال ،فإنّ هذه الجملة تؤكّد هذه الحقيقة وهي أنّ أعمال الإنسان لا تنفصل عنه أبداً ،وهي معه في جميع المراحل .