/م142
{ ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين} فإن هذا من فعل المنافقين ، يوالونهم وينصرونهم من دون المؤمنين لأنهم لا يكرهون أن يكون لهم النصر والسلطان ، وأن يلحقوا بهم ، ويعدوا أنفسهم منهم ، ولا يكون هذا من مؤمن .حذر الله تعالى المؤمنين أن يحذو بعض ضعفائهم حذو المنافقين في ولاية الكافرين من دون المؤمنين أي من غير المؤمنين وفي خلاف مصلحتهم ، يبتغون عندهم العزة ، ويرجون منهم المنفعة ، فإنه ربما يخطر في بال صاحب الحاجة منهم أن ذلك لا يضر كما فعل حاطب بن بلتعة{[610]} إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في شأنهم لأن له عندهم أهلا ومالا .فالأولياء جمع ولي من الولاية بكسر الواو وهي النصرة .وأما الولاية بفتح الواو فهي تولي الأمر ، وقيل يطلق اللفظان على كلا المعنيين والمراد هنا النصرة بالقول أو الفعل فيما ينافي مصلحة المسلمين .ومثله قوله تعالى في سورة المائدة:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [ المائدة:51] الخ وإن عم بعض المفسرين في هذه ، والله تعالى يقول بعدها{ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة .فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} [ المائدة:52] وهؤلاء هم المنافقون ، فالخوف من إصابة الدائرة ، وذكر الفتح وندمهم إذا جعله الله للمؤمنين ، مما يدل على أن الولاية هنا ولاية النصرة لليهود والنصارى الذين كانوا حربا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين ، فهو لا يشمل من ليسوا كذلك كالذميين إذا استخدمتهم الدولة في أعمالها الحربية أو الإدارية بل لهؤلاء حكم آخر .
ولما كنت في الآستانة سنة 1328 أحببت أن أعرف حال التعليم الديني في دار الفنون التي هي المدرسة الجامعة في عاصمة الدولة فلما دخلت الحجرة التي يقرأ فيها التفسير ألفيت المدرس يفسر آية المائدة هذه وعمدته تفسير البيضاوي ( وهو الذي يقرأه أكثر المسلمين في مدارسهم الدينية ) وهو يفسر الآية بعدم الاعتماد على اليهود والنصارى وعدم معاشرتهم معاشرة الأحباب ( وهذا من أغرب أغلاطه ) فلما قرر ذلك المفسر بالتركية قام أحد الطلبة وقال له:إذا كيف جعلتهم دولتنا في مجلسي المبعوثين والأعيان وفي هيئة الوكلاء ؟ ( أي وزراء الدولة ) ففاجأ المدرس الحصر وخرج العرق من جبينه .فإنه إذا قال إن عمل الدولة هذا مخالف لنص القرآن ، خاف على نفسه من ديوان الحرب العرفي أن يحكم عليه بالإعدام ، ولم يظهر له في الآية غير ما قاله البيضاوي ، وهل للمقلد إلا نقل ما يراه في الكتاب ؟ فقلت له أتأذن لي أن أجيب هذا الطالب ؟ قال:نعم .
فقمت واقفا وبينت معنى الولاية وكيف كان حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين مع أهل الكتاب وغيرهم في صدر الإسلام وتحقيق كون الولاية المنهي عنها في الآية هي ولاية النصرة والمعونة لهم وكانوا محاربين ، وكون استخدام الذميين منهم في الحكومة الإسلامية لا يدخل في مفهومها بل له أحكام أخرى ، والصحابة قد استخدموهم في الدواوين الأميرية والعباسيون جعلوا إسحاق الصابي وزيرا ...فاقتنع السائل ، وأفرخ روع المدرس ، ولما علم بذلك مدير قسم الإلهيات والأدبيات في دار الفنون اتخذه وسيلة لإصدار أمر من ناظر المعارف بقراءة درس التفسير وكذا درس الحديث بالعربية في بعض السنين ، وأراد أن يجعل ذلك وسيلة لجعلي مدرسا للتفسير إن أقمت في الآستانة .
{ أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا} أي أتريدون أن تجعلوا لله عليكم يوم القيامة حجة بينة على استحقاقكم لعذابه إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين ، لأن هذا من عمل المنافقين ، فالسلطان بمعنى الحجة والبرهان .
وقيل إنه بمعنى السلطة ومعناه أن يسلطهم عليكم بذنوبكم ، ولكن وصف السلطان بالمبين أظهر في المعنى الأول .ويستعمل المبين بمعنى البين في نفسه ومعنى المبين لغيره .