لما أطلق القول في هذا السياق ببيان سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم ، وكان ذلك يوهم أن ما ذكر عنهم عام مستغرق لجميع أفرادهم ، جاء الاستدراك عقبه في بيان حال خيارهم ، الذين لم يذهب عمى التقليد ببصيرتهم ، وهو{ لكن الراسخون في العلم منهم} أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين من اليهود ، الآخذون فيه بالدليل دون التقليد ، الراسخون أي الثابتون فيه ثبات الأطواد ، بحيث لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه{ والمؤمنون} من عامتهم أو من أمتك أيها الرسول إيمان إذعان يبعث على العمل ، لا إيمان دعوى وعصبية وجدل ، كما هو المعروف عن المقلدة في كل الملل ، كل منهم{ يؤمنون بما أنزل إليك} أيها الرسول من البينات والهدى في القرآن{ وما أنزل من قبلك} على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل عليهم السلام ، لا يفرقون بين الله ورسله بالهوى والعصبية .روى عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أنه قال في هذه الجملة:استثنى الله منهم فكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم وما أنزل على الله يؤمنون به ويصدقون به ، ويعلمون أنه الحق من ربهم .وروى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه قال في الآية:نزلت في عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا .
وما جرينا عليه من جعل ما تقدم جملة تامة ظاهر يسيغه الفهم بغير غصة ، ولا يعترض الذهن فيه شبهة ولا كبوة ، واختار بعضهم أن جملة ( يؤمنون ) الخ حالية أو معترضة لا خبرية وأن الخبر هو جملة ( أولئك سنؤتيهم ) في آخر الآية .وقد راجعت تفسير الرازي بعد كتابة ما تقدم فإذا هو يجزم بأن ( الراسخون ) مبتدأ خبره ويؤمنون ، وإذا هو يفسر الراسخين بالمستدلين وعلل ذلك بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك ، وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة ، وأورد في قوله:( والمؤمنون ) وجهين:أحدهما:أنهم المؤمنون منهم .والثاني:أنهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار ، وهذا أظهر وإلا قال:( لكن الراسخون في العلم والمؤمنون منهم ) الخ والمعنى أن الراسخين في العلم منهم هم ومؤمنوا المهاجرين والأنصار سواء في كونهم يؤمنون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل إلى من قبله من الرسل صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرقون بينهم .
وأما قوله تعالى:{ والمقيمين الصلاة} فهو جملة مستقلة ، و ( المقيمين ) فيه منصوب على الاختصاص أو المدح على ما قاله النحاة البصريون سيبويه وغيره والتقدير:أعني أو وأخص المقيمين الصلاة منهم الذين يؤدونها على وجه الكمال ، فإنهم أجدر المؤمنين بالرسوخ في الإيمان .والنصب على المدح أو العناية لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة ، والنكتة هنا ما ذكرنا آنفا من مزية الصلاة وكون إقامتها آية كمال الإيمان .على أن تغيير الإعراب في كلمة بين أمثالها ينبه الذهن إلى التأمل فيها ، ويهدي الفكر إلى استخراج مزيتها ، وهو من أركان البلاغة ، ونظيره في النطق أن يغير المتكلم جرس صوته وكيفية آدائه للكلمة التي يريد تنبيه المخاطب لها ، كرفع الصوت أو خفضه أو مده بها .وقد عد مثل هذا بعض الجاهلين أو المتجاهلين من الغلط في أصح الكلام وأبلغه .وقيل إن المقيمين معطوف على المجرور قبله .والمعنى يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك على الرسل ، وبالمقيمين الصلاة ، وهم الأنبياء أنفسهم فإن الله تعالى قال في الأنبياء:{ وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة} [ الأنبياء:73] أي إقامتها ، أو الملائكة فإنه تعالى حكى عنهم قولهم:{ وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون} [ الصافات:165 ، 166] ووصفهم بقوله:{ يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [ الأنبياء:20] والإيمان بهم من أركان الإيمان كالإيمان بالرسل .
وما ذكرناه أولا أبلغ عبارة ، وإن عده الجاهل أو المتجاهل غلطا أو لحنا ، وروي أن الكلمة في مصحف عبد الله بن مسعود مرفوعة ( والمقيمون الصلاة ) فإن صح ذلك عنه وعمن قرأها مرفوعة كمالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي كانت قراءة وإلا فهي كالعدم .وروي عن عثمان أنه قال إن في كتابة المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ، وقد ضعف السخاوي هذه الرواية وفي سندها اضطراب وانقطاع فالصواب أنها موضوعة ، ولو صحت لما صح أن يعد ما هنا من ذلك اللحن لأنه فصيح بليغ .وإنني بعد كتابة ما تقدم راجعت الكشاف فإذا هو يقول:نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد .ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظره في الكتاب ( أي كتاب سيبويه ) ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان ، وغبي عليه أن السابقين الأولين .... كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق بهم ، اه .
{ والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر} يجوز أن يكون هذا عطفا على ( الراسخون ) وعلى ضمير ( يؤمنون بما أنزل إليك ) وأن يكون مبتدأ خبره محذوف .أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك .أو كذلك ، أي مثل أولئك المؤمنين أو مثل المقيمين الصلاة في استحقاق المدح بالتبع ، وإقامة الصلاة تستلزم إيتاء الزكاة دون العكس ، فإن الذي يقيم الصلاة لا يمكن أن يمنع الزكاة لأن الصلاة تعلي همته وتزكي نفسه فيهون عليه ماله ، وقد قال تعالى:{ إن الإنسان خلق هلوعا* إذا مسه الشر جزوعا*وإذا مسه الخير منوعا* إلا المصلين} [ المعارج:21:19] الخ .
وقد يرد هاهنا سؤال وهو أن من سنة القرآن أن يذكر الإيمان بالله قبل العمل الصالح سواء ذكر الإيمان غفلا مطلقا أو ذكرت أركانه كلها أو بعضها كقوله تعالى:{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا} [ الكهف:107] ومثلها كثير وكقوله تعالى:{ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله باليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم} [ البقرة:62] والجواب أن القاعدة الأساسية في التقديم والتأخير هي أن يقدم الأهم الذي يقتضيه السياق لا الأهم في ذاته .ولذلك قال تعالى في سياق تخطئة المفاخرين بدينهم بالأماني{ ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} [ النساء:124] بعد ما قال في الآية التي قبلها{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب .من يعمل سوءا يجز به} [ النساء:123] فالسياق لبيان أن العبرة بالعمل بالدين لا بالانتماء إليه وإلى الرسول الذي جاء به والفخر بذلك ، فقدم ذكر العمل على الإيمان .والسياق الذي نحن فيه هو بيان أحوال أهل الكتاب في عصر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فكان المهم أولا بيان إيمان خيارهم بما أنزل إليه كإيمانهم بما أنزل إلى أنبيائهم من قبله ، ثم كون هذا الإيمان إذعانيا يترتب عليه العمل ، واكتفى منه بأعلى أنواع العبادات البدنية والمالية .ثم ختم الكلام ، بوصفهم بأول صفات الكمال ، أي بالإيمان بالله واليوم الآخر ، ويجوز أن يراد بالمؤمنين هنا المهاجرين والأنصار وبالمؤمنين في أول الآية المؤمنون من أهل الكتاب .
{ أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما} أي أولئك الموصوفون بما ذكر كله سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما لا يدرك كنهه في الدنيا أحد منهم .