{ ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل} أي وأرسلنا غير هؤلاء رسلا آخرين قد قصصناهم عليك من قبل تنزيل هذه السورة أوحينا إليهم كما أوحينا إلى هؤلاء ، وهم المسرودة أسماؤهم أو المبينة قصصهم في كل السور المكية ، وأجمع الآيات لأسماء الأنبياء قوله تعالى في سورة الأنعام في سياق الكلام عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ، ونوحا هدينا من قبل ، ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحي وعيسى وإلياس كل من الصالحين* وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين} [ الأنعام:8486] وأجمع السور لقصصهم هود وطسم الشعراء .ومنهم هود وصالح وشعيب وهم من العرب .
{ ورسلا لم نقصصهم عليك} أي كالمرسلين إلى الأمم المجهول علمها وتاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك ، كأمم الشرق ( الصين واليابان والهند ) ، وأمم بلاد الشمال ( أوروبة ) وأمم القسم الآخر من الأرض ( أمريكة ) وإنما لم يقص الله تعالى خبر الرسل الذين أرسلهم إلى أولئك الأقوام لأن حكمة ذكر الرسل وفوائد بيان قصصهم له صلى الله عليه وآله وسلم لا تتحقق بقصص أولئك المجهول حالهم وحال أممهم عند قومه وجيران بلاده من أهل الكتاب .وهذه الحكم والفوائد هي المشار إليها في قوله تعالى{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [ يوسف:111] وقوله:{ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذا الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} [ هود:120] وقوله:{ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين* ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ، وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آيتنا ولكنا كنا مرسلين* وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} [ القصص:4445] .
فالعبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك يظهر في قصص من ذكرهم من الرسل دون من لم يذكرهم .وحسبنا العلم بأن الله تعالى أرسل الرسل من كل الأمم فكانت رحمته بهم عامة لا محصورة في شعب معين احتكرها لنفسه كما كان يزعم أهل الكتاب ، غير مبالين بكونه لا يليق بحكمة الله ولا ينطبق على سعة رحمته .قال تعالى:{ ولقد بعثنا في كل الأمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [ النحل:36] وقال:{ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ، وما من أمة إلا خلا فيها نذير} [ فاطر:24] وهذه الحقيقة من حقائق العلم الإلهي والدين السماوي لم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعم مشاغبوهم أن القرآن مقتبس من كتبهم ، وكم فيه من الحقائق ولكن طبع على قلوبهم فهم لا يعقلون .ولا نخوض في إحصاء الأنبياء والرسل فإنه لا يعلم إلا بوحي من الله تعالى ولم يبين الله ذلك في كتابه ولا رسوله فيما صح من الخبر عنه .
{ وكلم الله موسى تكليما} خاصا ممتازا عن غيره من ضروب الوحي العام لأولئك النبيين ، ولولا ذلكم لم يختلف التعبير ، كما علمت من إيتاء داود الزبور ، وإن صح أن يسمى الوحي إليهم تكليما ، والتكليم لهم وحيا ، كما يفهم من قوله تعالى{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ، أو من وراء الحجاب ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [ الشورى:51] والظاهر أن تكليم موسى كان من النوع الثاني وهو التكليم من وراء حجاب .وقد سماه وحيا في قوله تعالى:{ وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} [ طه:13] الخ .أما حقيقة ذلك الوحي والتكليم فليس لنا أن نخوض فيه لأننا لم نكن من أهله ، على أننا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا مع بعض بواسطة الأصوات التي تجعل كل ذرة من الهواء متكيفة به ، وهي أعم الوسائط وأظهرها .وأما الحجاب فحكمته حصر القوة الروحية والاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد تتحد فيه همومها وأهواؤها المفترقة كما كان شأن موسى إذا رأى النار في الشجرة .وأما الرسول الذي يرسله الله فيوحي إلى النبي بإذنه ما يشاء فهو ملك الوحي المعبر عنه بالروح الأمين .
واستدل بعضهم بتأكيد الفعل على كون تكليم الله لموسى لم يكن بواسطة الملك ، يعنون أنه لو قال هنا كما قال في سورة البقرة:{ ومنهم من كلم الله} [ البقرة:253] ولم يزد عليه كلمة ( تكليما ) المؤكدة لجاز أن يكون التكليم مجازيا ، فإن الفراء قال:إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر ، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام .وقال بعضهم إن هذا التأكيد لا يمنع أن يكون التكليم نفسه مجازيا لأنه يمنع المجاز في الفعل لا في الإسناد ، بل يجوز أن يسند الكلام المؤكد بمثله إلى المبلغ عن المتكلم كما يبلغ عن الملك حاجبه أو وزيره وعن المرأة المحجبة زوجها أو ولدها ، أقول ومنه إسناد الكلام إلى الترجمان إذ المقصد من التكليم توجيه الخطاب إلى المخاطب ولو بواسطة الترجمان أو غيره ، والمقصد من الكلام معناه ، إلا أن يكون رسالة مقصودة لذاتها .ولكن نقل عنهم تأكيد االفعل المستعمل في الحقيقة دون المجاز كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان:
بكى الخز من روح وأنكر جلده *** وعجت عجيجا من جذام المطارف
فأكدت ( عجت ) مع العلم بأنه مجاز لأن المطارف ( جمع مطرف بالكسر والضم وهو رداء من خزله أعلام ) لا تعج ( والعجيج الصياح ) .