{ لكن الله يشهد بما أنزل إليك} هذا استدراك على ما علم من سياق من إنكارهم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم وعدم شهادتهم بها ، وهي عندهم في المرتبة المشهود به لوضوحها ، ولكنهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان ، فسألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء يثبت دعواه ، ويكون شاهدا له مقنعا لهم ، فبين الله تعالى له أن هذا الطلب جار على شنشنتهم في معاملة أنبيائهم من قبل ، وأن وحيه إليه هو من جنس وحيه إلى أولئك الأنبياء الذين يزعمون أنهم يؤمنون بهم ويشهدون لهم ، فكأنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم إنهم مع وضوح أمر نبوتك في نفسه ، لا يشهدون بما أنزل إليك وإن كانوا يشهدون لما هو من جنسه ، لكن الله يشهد لك به ، فإنه{ أنزله بعلمه} أي متلبسا بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل إنزاله إليك{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمه أنت ولا قومك من قبل هذا} [ هود:38]{ وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [ الشورى:52]{ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [ االعنكبوت:48] .
فهو بما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية والقضائية والاجتماعية ، ومن علوم الأنبياء والرسل والأمم وغير ذلك ، وبما جاء به من الأسلوب البديع الذي لم يسبق إليه ولا يلحقه فيه ، من مزج هذه العلوم بعضها ببعض مزجا دقيقا يؤلف بين ما كان موضوعه منها أعلى الموضوعات كالمسائل الإلهية ، وما كان منها أدنى كشؤون الكفار والمجرمين ، بحيث يكون القليل من آياته كالكثير منها مؤثرا في جذب القلوب إلى الإيمان ، وتغذيتها بالحق والخير ، وبما له من السلطان على الأرواح بهدايته وبلاغته ، وبما فيه من أنباء الغيب عن الماضي والحاضر والمستقبل ، وبما فيه من التناسق والتصادق ، والسلامة من الخلاف والتعارض ، على كثرة علومه ، وتشعب فنونه ، هو بمثل هذا الخصائص والمزايا البارزة في أعلى حلل الفصاحة والبلاغة ، مثبت لشهادة الله تعالى به ، وبأنه وحي من عنده ، لأن تلك الخصائص والمزايا لا يقدر على الإتيان بها أفراد العلماء الواسعي الإطلاع ، فضلا عن أمي نشأ بين الأميين ووصل إلى سن الكهولة ولم يظهر منه شيء من مثل ذلك ، ولا مما دونه من مظاهر فصاحة قومه كالشعر والخطابة والمفاخرة ، فإذا كان لا يقدر على مثله أحد من علماء الدنيا والدين ، وفحول البلاغة المقرمين ، تعين أنه من عند الله .فكأنه تعالى يقول لنبيه:ماذا يضرك جحود اليهود وعدم شهادتهم لك ، والله يشهد بما أنزله إليك ، وأنت على يقين من ذلك بالوحي ، وقد أيد شهادته لك بعلمه الذي أودعه هذا القرآن فكان بذلك مثبتا لحقية نفسه وكونه أنزل عليك من ربك ، بأقوى من إثبات الدعاوى بالبينات والشهادات التي تحتمل النقض ، ويؤيدها كذلك يوما بعد يوم بتصديق ما أنزله في القرآن من الوعد لك بالفلاح والنصر ، ووعد من عادوك بالخذلان والخسر .؟
{ والملائكة يشهدون} أيضا بذلك لأن الذي نزل به هو الروح الأمين منهم ، وأنت تراه وتتلقى عنه لا ريب عندك في ذلك .والله يؤيدك بجند منهم ينفخون روح التثبيت والسكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [ الأنفال:12] وكل ذلك قد كان ، وثبتت به شهادة ملائكة الله عند نبيه وعند المؤمنين بأخبار الله ، وبما ظهر لهم من صدقها في أنفسهم .{ وكفى بالله شهيدا} فشهادته أصدق ، وقوله الحق ،{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}{ [ الأنعام:19] .